الوظيفية التوليـدية:
بدأ البحث اللساني في أمريكا مع
"بلومفيلد" وصفيا بحتا، فهو من الأوائل الذين أقصوا المعنى من التحليل
اللساني فكانت رؤيته للغة سطحية شكلية دفعت به إلى أن يفسر الظاهرة اللغوية تفسيرا
آليا خالصا، وانطلاقا من هذا المبدأ السلوكي القائم على الفعل ورد الفعل فسر
"بلومفيلد" الظاهرة اللغوية بأنها استجابة لمؤثرات خارجية وساق لذلك
القصة الشهيرة لــــــــ"جاك" و"جيل" مع التفاحة[1]،
وقد بذل بلومفيلد جهدا أكثر من غيره ليجعل من علم اللغة دراسة مستقلة وعلمية حسب
فهمه لمصطلح العلمية[2].
لكن الدعوة لإبعاد المعنى عن التحليل اللساني
كانت أيضا مع "هاريس" الذي يصنف ضمن الاتجاه الوصفي الأمريكي
"التوزيعي"، وهذا المنحى التوزيعي في الفكر اللساني الأمريكي يرى ضرورة
وصف اللغة مستقلة عن المعنى الفضفاض وغير المحدود واعتماد بدل ذلك العلاقات
الموجودة بين الكلمات.
أما "إدوارد سابير" فقد اهتم بالعلاقة
بين اللغة والمجتمع، فرغم توجهه البنوي إلا أنه حدد اللغة من حيث أنها بنية وشكل
قائم على علاقة العناصر ووظيفتها، وفرق بين المستوى التاريخي والمستوى الوصفي،
وبين المستوى الفونولوجي والمورفولوجي، ((والواقع أن أول فيلسوف استطاع أن يشمل
اللسانيات وفلسفة اللغة والحياة الاجتماعية هو إدوارد سابير الذي وضع الأسس
الأنتروبولوجية لدراسة اللغة))[3].
غير أنه ومنذ ظهور كتاب
"البنى التركيبية" لـ"تشومسكي" سنة 1957 تغير اتجاه البحث
اللساني وتغيرت أهدافه، فأصبحت الغاية من البحث اللساني هي تفسير الظاهرة اللغوية
بدلا من وصفها، كما تميزت آراء وأفكار "تشومسكي" في هذه المرحلة
بالمرونة واستجابة صاحبها للنقاد وكان ذلك ((نتيجة للجو العلمي المشبع بالأفكار
الجديدة التي تأتي من تبني اللسانيات للمناهج العلمية الدقيقة...فلا تمر سنة من
غير أن يطرأ تغيير معين على النظرية اللسانية العامة أو النظريات المتفرعة عنها))[4].
ويعد وصول تشومسكي إلى
النضج العلمي في ظل تأثير "جاكبسون" أحد المداخل التي تساعد على فهم
فكره لأن "جاكبسون" كان مهتما بصورة أساسية بقضية الكليات الصوتية
الوظيفية، فقد نقل جاكبسون نشاطات وأفكار مدرسة براغ إلى الولايات المتحدة موليا اهتماما كبيرا
لمفهوم الوظيفة، ونتيجة لتأثر اللسانيين الأمريكيين بجاكبسون تأسس النادي اللساني
لنيويورك حيث اتخذ بعض أعضائه المقاربة الوظيفية مذهبا لهم[5].
فقبل تشومسكي كان
التوزيع هو منطق ومنطلق التحليل اللساني إذ اشتهر مبدأ تحليل الجملة إلى مكوناتها
المباشرة مع بلومفيلد وهاريس وقبلهما التعليب عند هوكت، فجاء تشومسكي برؤية أخرى
للنحو مفادها: ((إن النحو التوليدي لم يعد محاكيا للنحو التقليدي المدرسي في
المفهوم والأهداف لأنه لا يرمي إلى تحديد المعايير التي تمكن المتكلم من استعمال
لغته الأم استعمالا سليما دون أخطاء بل إن النحو عنده هو مجموعة من القواعد
الكامنة في ذهن المتكلم الراسخة فيه والمكتسبة من محيطه الاجتماعي منذ طفولته))[6].
إن هذه الرؤية الجديدة
للنحو بمثابة نقطة فاصلة بين منهجين مختلفين في الدرس اللغوي ونقلة نوعية من المرحلة
التوزيعية إلى المرحلة التوليدية التحويلية، فالتوليد من أهم المفاهيم التي جاءت
في نظرية تشومسكي اللغوية ويقصد به ((القواعد القادرة على توليد عدد غير محدود من
الجمل بواسطة عدد محدود من القواعد المتكررة التي تعمل من خلال عدد محدود من
المفردات... الجمل تولّد عن طريق سلسلة من الاختيارات تبدأ من اليسار إلى اليمين
أي عند الانتهاء من اختيار العنصر الأول فإن كل اختيار يأتي عقب ذلك يرتبط
بالعناصر التي سبق اختيارها مباشرة وبناء على ذلك يجري التركيب النحوي للجملة))[7].
إن التوليد بهذا المفهوم
يشترك مع التوزيع في أن الاثنين يصوران الجملة مركبة بشكل آلي، غير أن التوزيع
يعمل على الجمل الجاهزة بينما التوليد يفسر الطريقة التي تصاغ بها الجمل، وما يميز
التوليد ليس الإنتاج المادي للجمل وإنما القدرة على الفصل في ما يقبله نحو اللغة
وما لا يقبله احتكاما لقواعد اللغة.
جدير بالذكر في هذا
المقام أن نبين المراحل الثلاث التي مرت بها القواعد التوليدية التحويلية:[8]
*
المرحلة الأولى: ظهور
كتاب البنى التركيبية سنة 1957، (النظرية الكلاسيكية).
*
المرحلة الثانية: ظهور
كتاب مظاهر النظرية التركيبية سنة 1965، (النظرية النموذجية).
*
المرحلة الثالثة: مقالات
تشومسكي حول مكانة الدلالة والبنية العميقة في نظريته والتي جمعها في كتاب سنة 1972 (النظرية
النموذجية الموسعة).
في المرحلتين الأولى والثانية استطاعت أفكار تشومسكي أن
تجد لنفسها مكانا على حساب البنوية الوصفية والسلوكية، لكن الاتجاه الوظيفي لحلقة براغ
في أوروبا كان منافسا شرسا للفكر
التوليدي، فالنحو التوليدي يعزل التركيب عن ظروف وملابسات القول ولا يرى تدخل
المقام والسياق في توجيه بنية الجملة، فالقواعد النحوية المكتسبة كفيلة بضبط سلامة
الجملة نحويا وبالتالي دلاليا، بينما الاتجاه الوظيفي يولي أهمية كبرى للمقام
والوظيفة التبليغية للغة.
فالنحو التوليدي التحويلي قام في نموذجه الأول على
المكون التركيبي والفونولوجي فقط دون الاهتمام بالمكون المعجمي والدلالي وهذا ما
أدى إلى إنتاج جمل صحيحة نحويا خاطئة دلاليا، لكن تشومسكي طور نظريته محاولا
((بناء نموذج أو نحو كلي يمثل القدرة المثالية لكل ذات متكلمة في جميع اللغات بشكل
منطقي ورياضي))[9]،
ففكر في المرحلة الثانية بإشراك المكون الدلالي الذي كان له دور كبير في تغيير
نظرة تشومسكي للقواعد، ((ويرجع الفضل في إشراك هذا المكون إلى "فورد"
و"كاتز" و"بوستل" والهدف منه أن يكون مكملا مع القاعدة
التوليدية في مستوى البنية العميقة))[10]،
وبالتالي تجاوز الوصف الشكلي الخارجي للغة واهتم بطريقة اكتساب اللغة والقدرات
الإبداعية للإنسان في إنتاجه للجمل في إطار نُظم اللغات البشرية، فلقد بذل
اللغويون جهودا كبيرة في محاولة الإجابة على السؤال:
o
كيف يمكن أن نضع نظام
قواعد دون اللجوء إلى المعنى؟
بيد أن هذا السؤال قد
وضع بأسلوب خاطئ، لأنه يوحي بأن المرء يستطيع أن يضع نظام قواعد باللجوء إلى
المعنى[11].
وفي المرحلة الثالثة
عرفت نظرية تشومسكي تطورا جديدا تأثرا بالنظرية الدلالية التفسيرية لفورد وكاتز،
والنظرية الدلالية التوليدية لـ:"ليكوف" و"ماكاولي"
و"بوستل" ثم "غروبر"[12]،
((إن وجود التوافقات بين السمات الشكلية والدلالية حقيقة لا يمكن نكرانها، وينبغي
أن تدرس نقاط التطابق هذه ضمن نظرية أكثر شمولا للغة، تضم نظرية الشكل اللغوي
ونظرية استخدام اللغة بوصفها من الأجزاء الفرعية لهذه النظرية))[13]،
فقدم تشومسكي مجموعة مقالات لتقويم النظرية النموذجية، حَوت هذه المقالات إضافات
جديدة أبرزها إعادة النظر في المكون الدلالي لتصبح وظيفته الدلالية هي إسناد
التفسير الدلالي الملائم للمتواليات التي يولدها التركيب على أن يتم هذا التفسير
على مستوى البنية العميقة دون البنية السطحية[14]،
وهذا خلافا لما كان عليه الأمر من قبل حيث كان دور المكون الدلالي في تفسير
التركيب مقتصرا على الدور الفونولوجي.
كانت هذه هي أهم المحطات
الوظيفية التي طبعت الدرس اللساني عبر مراحله المختلفة، وكما رأينا فقد أقامت الاتجاهات
الوظيفية التي زامنت البنوية أسسها على مبدإ وظيفي انطلاق من ضرورة عدم الاكتفاء
بالوصف في نشاط اللساني، وإنما يتحتم على اللساني تجاوز الوصف إلى التفسير.
أما الاتجاهات اللسانية
التي خرجت من رحم النموذج التوليدي التحويلي فقد عرفت طريقها نحو الوظيفية انطلاقا
من النظرية النموذجية الموسعة لتشومسكي وإدخال المكون الدلالي في القواعد
التحويلية.
وأما اللسانيات
التبليغية التواصلية فقد احتضنت نظرية النحو الوظيفي وهي مناط بحثنا هذا فسنخصص
لها المبحث التالي لنتناولها ومبادئها بشيء من التحليل والتفصيل.
[1]) السعران محمود، علم اللغة - مقدمة للقارئ
العربي-، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، دون ط، دون سنة، ص 305.
[2]) جون ليونز، نظرية تشومسكي اللغوية، ترجمة:
حلمي خليل، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1985، ص 66.
[3]) الزواوي بغورة، الفلسفة واللغة - نقد المنعطف
اللغوي في الفلسفة المعاصرة-، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005،ص 139.
[4]) نعوم تشومسكي، اللغة ومشكلات المعرفة –
محاضرات ماناجو- ترجمة: حمزة بن قبلان المزيني، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة
الأولى، 1990، ص 03.
[5]) مومن أحمد، اللسانيات النشأة والتطور، ديوان
المطبوعات الجامعية، الجزائر، الطبعة الثانية 2005 ، ص 146.
[6]) العلوي شفيقة، محاضرات في المدارس اللسانية
المعاصرة، أبحاث للترجمة والنشر والتوزيع، لبنان، الطبعة الأولى، 2004، ص40.
[7]) جون ليونز، نظرية تشومسكي اللغوية، ترجمة:
حلمي خليل، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1985، ص 103.
[8]) مومن أحمد، اللسانيات النشأة والتطور، ديوان
المطبوعات الجامعية، الجزائر، الطبعة الثانية 2005 ،ص 205.
[9]) علي آيت أوشان، اللسانيات والبيداغوجيا نموذج
النحو الوظيفي، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998، ص 38.
[10]) درقاوي مختار، نظرية تشومسكي التحويلية
التوليدية -الأسس والمفاهيم-، الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، قسم
الآداب والفلسفة، العدد 13 جانفي 2015، ص 10.
[11] ) نعوم تشومسكي، البنى النحوية، ترجمة: يؤيل
يوسف عزيز، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1987، ص 124.
[12]) درقاوي مختار، نظرية تشومسكي التحويلية
التوليدية -الأسس والمفاهيم-،الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، قسم الآداب
والفلسفة، العدد 13 جانفي 2015، ص 11.
[13] ) نعوم تشومسكي، البنى النحوية، ترجمة: يؤيل
يوسف عزيز، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1987، ص 132.
[14]) درقاوي مختار، نظرية تشومسكي التحويلية
التوليدية -الأسس والمفاهيم-،الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، قسم
الآداب والفلسفة، العدد 13 جانفي 2015، ص 11.
Post Comment
ليست هناك تعليقات