التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

معيارية النحو العربي:


يعد مصطلح "المعيارية" في مقابل مصطلح"الوصفية" وليد اللسانيات البنوية التي تصنف بأنها ثورة على الدراسات اللغوية في أوربا وخصوصا النحو المعياري الذي يعمد إلى مبدإ تقويمي يصوّب ويخطّئ مستعملي اللغة، فنشاط الباحث في اللغة يتمثل في وضع معايير يتخذها المتكلم سلّما لقياس ومعرفة سلامة لغته من عدمها.
غير أن انتقال مصطلح "الوصفية" إلى الواقع اللساني العربي جرّ معه مصطلح "المعيارية"، ((فأما ما يخص النحو العربي فقد حكم عليه بعضهم أنه معياري محض بهذا المعنى السلبي، ووصفوا بذلك مواقف كل النحاة القدامى، واستدلوا على ذلك بقول سيبويه، وغيره بأن هذا جيد أو حسن وذاك قبيح وأن هذا جائز وذاك لا يجوز ولذلك لا يمكن أن يعد النحو العربي علما من الناحية الموضوعية بل هو نحو تعليمي كما هو كذلك النحو التعليمي في سائر اللغات، وليس الأمر كذلك أبدا، فقد تأثر هؤلاء بالبنوية إلى أبعد حد ولم يحاولوا أن ينظروا فيما تركه لنا العلماء القدامى النظر المجرد من كل حكم سابق، وتعسفوا باتخاذهم المذاهب الحديثة كمبدأ وكمنطلق يجوز الحكم على كل شيء بما تقرر فيها وعلى مقياسها))[1]، فلم يجد اللسانيون العرب بدّا من إلصاق المعيارية بالنحو العربي دون مراعاة خصوصية النحو العربي والظروف التي نشأ فيها، والأسباب التي دعت إليه.
وأبرز الوصفيين العرب الدكتور تمام حسان الذي يقول: ((فالغاية التي نشأ النحو العربي من أجلها وهي ضبط اللغة وإيجاد الأداة التي تعصم اللّاحنين من الخطأ قد فرضت على هذا النحو أن يتسم في جملته بِسِمة النحو التعليمي لا النحو العلمي، أو بعبارة أخرى أن يكون في عمومه نحوا معياريا لا نحوا وصفيا))[2].
يبدو أن استخدام تمام حسان للإضافة "في عمومه" استدراك على حكمه بأن النحو العربي معياري، وما يقتضيه هذا المعنى أن في النحو العربي ما هو وصفي ولو كان نزرا قليلا.
لكن حري بنا أن نقرأ لتمام حسان قولا آخر مفاده: ((لقد تعلقت الإباحة وعدمها بقواعد معيارية تفرض نفسها على الاستعمال وعلى المسموع وكان توصل النحاة إلى هذه القواعد نتيجة نشاط استقرائي تحليلي للغة... فكانت في نظرهم أولى بالاعتبار مما خالفها من المسموع، ومن ثم أعملوا فيما خالف قواعدهم من النصوص حيل التخريج والتأويل والتعليل))[3].
أعتقد أن الإشارة إلى "النشاط الاستقرائي التحليلي للغة" يُخرج عمل النحاة من الوصف المعياري على الأقل في المراحل الأولى للدرس النحوي، أما الإشارة إلى "حيل التخريج والتأويل والتعليل" فإن كانت مراعاة للقصدية ومقتضى الحال ولم يكن فيها تعسف واستعلاء في حق اللغة فلا تعد سببا كافيا لنعت النحو العربي بالمعيارية.
ما كان للباحثين العرب أن يتفطنوا إلى معيارية النحو العربي لولا التطور الذي شهده علم اللغة الغربي حتى استقرت مفاهيمه وأسسه على ما عرف بالمنهج الوصفي، وهذا الأخير ما كان له أن يقوم لولا تعسف الدراسات التاريخية التي كانت تعد اللغات كائنات حية شأنها في ذلك شأن الكائنات البيولوجية[4]، فالمفارقة بين الدرسين اللغويين الغربي والعربي كبيرة وعجيبة في نفس الوقت، ففي حين بدأ الأول معياريا وانتهى وصفيا بدأ الثاني وصفيا وانتهى معياريا.
فإذا كانت الحال هذه، أفلا يتبادر إلى الأذهان سؤال هو أكثر من وجيه مفاده:
-                  لماذا انتظرنا كل هذا الوقت لنسِم الدراسات اللغوية العربية بأنها كانت وصفية في البداية ثم تحولت إلى معيارية؟
ونحن في هذا المقام لا نجد جوابا سوى القول بأن المعياريتين مختلفتين، فأما المعيارية الغربية فقد كانت متعسفة سامقة على اللغة نفسها، تميزت بالتعليل والقياس الذي في الفلسفة اليونانية وأفكار أريسطو، وأما المعيارية التي وجدت في الدراسات اللغوية العربية فكانت موجودة بالقوة لا بالفعل، لأن الغاية التي نشأت من أجلها هذه الدراسات هي التقعيد والتقنين بما يضمن سلامة اللغة التي جاء بها القرآن الكريم، وأما الوصفية في الدراسات العربية، فإننا ((لا نعدم أن نقابل من وقت إلى آخر قضايا نحوية مهمة نوقشت وحللت على أسس وصفية سليمة، ولكن يغلب أن يكون هذا الوصف مسوقا بصورة عفوية ومطبقا بصورة جزئية لا تسمح بالقول بأن المنهج المتبع في دراسة النحو العربي منهج وصفي))[5].


[1] ) الحاج صالح عبد الرحمان، منطق العرب في علوم اللسان، دار موفم للنشر، الجزائر، دون ط، 2012، ص 246.
[2]) حسان تمام، اجتهادات لغوية، عالم الكتب، ط01، القاهرة، 2007، ص13.  
[3]) حسان تمام، اللغة العربية معناها ومبناها، دار الثقافة، المغرب، 1994، دون ط، ص 13.
[4]) مومن أحمد، اللسانيات النشأة والتطور، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2005 ، الطبعة الثانية، ص 119.
[5]) بشر كمال، التفكير اللغوي بين القديم والحديث، دار غريب للنشر، القاهرة، دون ط، 2005، ص 320.

ليست هناك تعليقات