الاختصار والإطناب من العقد الفريد:
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مَضى قولنا في الخُطب وفضائلها وذِكْر طِوالها وقِصارها ومَقامات أَهْلها ونحن قائلون بعون الله وتَوفيقه في التَوقيعات والفُصَول والصُّدور وأَدَوات الكِتابة وأَخبار الكًتَاب وفَضْلِ الإيجاز.
إذ كان أشرفُ الكلام كُلَه حُسْناً وأَرفعُه قَدْراً وأَعظمُه مِن القلوب مَوْقعاً وأقلُه على اللسان عَملاً ما دَلّ بعضُه على كُلّه وكَفى قليلُهعن كَثيره شَهِد ظاهرُه على باطنه وذلك أن تَقِلَّ حُروفه وتَكْثَر معانيه.
ومنه قولُهم: رُبّ إشارة أبلغُ من لَفظ.
ليس أَن الإشارة تُبيّنَ ما لا يُبينه الكلامُ وتَبْلغُ ما يَقْصُر عنه اللسان ولكنّها إذا قامت مَقام اللَّفظ وسَدّت مَسد الكلام كانت أبلغَ لقلّة مؤونتها وخِفّة محملها.
قال أَبرْويز لكاتبه: اجْمَع الكَثِيرَ ممّا تُريد من المعنى في القليل ممّا تقول. يحُضُّه على الإيجاز ويَنهاه عن الإكثار في كًتبه.
أَلَا تَراهم كيف طَعنوا على الإسهاب والإكثار
وفي كلام العرب الاختصار والإطناب والاختصار عندهم أحمد في الجُملة وإن كان للإطناب مَوْضع لا يَصْلح إلا له.
وقد تُومِىء إلى الشيء فَتَستغني عن التَّفسير بالإيماءة كما قالوا: لمحةٌ دالّة.
كتب عمرو بنُ مَسْعدة إلى ضَمْرة الحَرُوريّ كتاباً فنظر فيه جعفر بن يحيى فَوقَّع في ظهره: إذا
كان الإكثار أبلغَ كان الإيجاز مُقَصِّراً وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عيَّاً.
وبَعث إلى مَروانَ بن محمد قائدٌ مِن قُوَاده بغلام أَسْود فأَمر عبدَ الحميد الكاتبَ أن يكتبَ إليه يَلْحاه وُيعنِّفه فكَتب وأَكثر فاستثقل ذلك مَروانُ وأَخذ الكتاب فوقّع في أسفله: أَمَا إنك لو عَلِمْت عدداً أقل من واحد ولوناً شرَّاً من أسود لبعثتَ به.
وتكلّم ربيعةُ الرّأي فأَكْثر وأَعْجبه إكثارُه فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه فقال له: ما تَعدّون البلاغة عندكم يا أعرابيّ قال له: حَذْف الكلام وإيجاز الصواب.
قال: فما تَعدّون العِيّ قال: ما كُنتَ فيه منذُ اليوم.
فكأنما أَلقمه حَجراً.
ليست هناك تعليقات