التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

السميائيات التأويلية:


السميائيات التأويلية: 
إن الغاية من اعتبار السميائيات التأويلية خطابا نظريا حول الظواهر التأويلية يمكن من خلاله للذات أن تدرك نفسها وتدرك العالم أيضا إدراكا ثقافيا في ” الهنا ” و”الآن “، يعود فيما يبدو ، إلى اعتماد رؤية دقيقة جدا لمفهوم” العلامة ” .والتمظهر الآخر الهامّ والخاص لهذه الدقة هو تطبيق شارل ساندرس بورس لهذا المفهوم على ” الأفكار ” .والحقيقة فإن الإجابة ،بالنسبة إليه ، عن السؤال : هل نستطيع التفكير دون علامات ؟ يجب أن تكون بالنفي ويستدل على ذلك بالشكل الآتي : “إن التفكير بواسطة العلامات” هو وحده القابل للظهور والتجلي انطلاقا من “وقائع خارجية” ؛لأن الفكر لا يمكن إدراكه والتعرف عليه إلاّ عبر وقائع خارجية ملموسة ، والفكر الذي لا يمكن التعرف عليه ، هو فكر لا وجو له . والخلاصة هي أن ” كل تفكير ينبغي أن يكون ، بالضرورة ، بواسطة العلامات” [1] حيث لا علامة بدون فكر ، لكن لا فكر بدون علامة أيضا . أهي صعوبة تنضاف للنظرية البورسية حول العلامة ؟ إنها كذلك فقط عندما نعزل الفكر عن العلامة . إن الفكر علامة في الكون ، و هو العلامة في بعدها التداولي ، إنه قانون ، وعلاقة لـ “إِنْ ” ولـ ” إذن ” وهي علاقة فاعلة ،لا منفعلة ، بل الأكثر من ذلك إنها علاقة مقنِّنة للفعل داخل الكون لا خارجه ، مفهوم ، سيرورة وقانون … [2] فلا شيء يوجد خارج مدار ما ترسمه امبراطورية العلامات .هذا يعني من بين ما يعني أنه يجب أن نطرح ، فيما يخص الأفكار ، نفس الأسئلة المطروحة بالنسبة لكل علامة ؛ أي ما هو ماثول هذه العلامة وما هو موضوعها وما هو مؤوِّلها وكيف تتعاضد هذه الأطراف الثلاثة لتنتج سيرورة تدليلية وتأويلية يصطلح بورس على تسميتها ” السميوزيس “؛ وهي سيرورة تتحكّم فيها ضوابط تتأرجح بين ذاتية تمنحها بعدها الإبداعي المتجدد وبين موضوعية تقلّص من غلواء التأويلات وعبثيتها أحيانا ؛«إن السميوزيس في هروبها اللامتناهي من علامة إلى علامة ومن توسّط إلى توسّط ، تتوقف لحظة انصهارها في العادة ، لحظتها تبدأ الحياة ويبدأ الفعل »[3] .
إن الحديث عن هذه السيرورة ـ في تصور بورس ، وعن طرق صياغتها وأشكال تداولها ـ هو حديث عن النشاط الإنساني ، وعن رؤية جديدة ومغايرة لهذا النشاط باعتباره بؤرة مركزية منتجة للعلامات ومستهلكة لها في الوقت نفسه . إن هذا النشاط لا يقف فقط عند حدود إنتاج موضوعات ثقافية يلقي بها للتداول والاستهلاك ، بل إنه يدرجها أيضا ضمن أنساق تعطيها أبعادها وتحققاتها المستقلة . لذلك فالعلامة من حيث الوجود والاشتغال ليست وحدة تهتم بتعيين الأشياء والوقوف عند حدودها المباشرة القابلة لإدراك والمعاينة فحسب ،إنها بالإضافة إلى ذلك تهتم بتأويلها . إنها في الأول والأخير نمط في بناء التجربة الإنسانية . من هنا نستطيع القول إن الآليات الإدراكية هي في الوقت نفسه آليات اشتغال الحالات التي تقودنا إلى توليد وتأويل العلامات .
إن العلامة ، إذن ، هي الوجه الآخر لإواليات الإدراك ، والإدراك في منشئه وفي منطلقاته الأصلية هو معرفة مبنية على افتراضات تستند بدورها إلى معرفة سابقة من أجل إنتاج معرفة مضافة ،لذا لا يمكن تصور سيرورة تأويلية معزولة وخارجة عن عمليات الإدراك هاته سواء كان إدراكا لـ “الأنا” أو إدراكا ” للعالم ” والمحيط الخارجي الذي تتحرك داخله هذه ” الأنا ” . إن هذا الإدراك لا يتم دفعة واحدة ، بل هو إدراك يتم بوسائط ويستند في إنتاج دلالاته إلى عجلة التسنين الثقافي والرمزي . لهذا فكل شيء يمكن أن يشتغل بوصفه علامة، فالتجربة الإنسانية كما سبقت الإشارة ، تشتغل بكافة أبعادها كمَهْدٍ للعلامات؛لحياتها ولنموها ولموتها أيضا( الإنسان منتج للعلامات وأول ضحية لها ).
ويعرف بورس العلامة في قوله : » إن العلامة ، أو الماثول ، هي شيء يعوِّض بالنسبة لشخص ما شيئا ما بأيّة صفة وبأيّة طريقة . إنه يتوجّه إلى شخص ما ، أي يخلق في ذهن هذا الشخص علامة موازية أو ربما علامة أكثر تطورا . وهذه العلامة التي يخلقها أسميها مؤوِّلا للعلامة الأولى . وهذه العلامة تحلّ محلّ شيء ما : موضوعها . إنها لا تحلّ محلّ هذا الموضوع ، تحت أيّة علاقة كيفما كانت ، بل عبر الإحالة على فكرة أطلقت عليها أحيانا عماد الماثول « [4] .
إن هذه الدينامية ( ماثول يحيل عل موضوع عبر مؤول أي سلسلة الإحالات ) هي ما يشكل في سميائيات بورس ما يطلق عليه السميوزيس ؛ أي السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالات وتداولها ،وهي المسؤولة عن العلاقة السميائية التي تربط الماثول بالموضوع عبر الأشكال التوسطية التي يقوم بها المؤول . فما نحصل عليه في نهاية المسير التأويلي هو حدّ بدئي لمعرفة عميقة تطرحها العلامة ، فكلّ مؤوِّل جديد يشرح الموضوع السابق انطلاقا من معارف وتصورات جديدة ، وهي تصورات تجعل من السيميوزيس بؤرة للتوالد الدلالي اللامتناهي ، هذا اللاتناهي لا يفصل العلامة عن أصلها ، بل يحافظ على هويتها وتماسكها .
» إن العلامة ، هي كلّ ما يحدِّد شيئا آخر ( مؤوِّلها ) ليحيل على موضوع تُحيل عليه هي نفسها ( موضوعها ) بنفس الشكل ، ويصبح المؤوِّل بدوره علامة وهكذا دواليك في إطار سلسلة لامتناهية «[6]؛ فالأمر يتعلّق ،إذن ، بعلاقة ثلاثية ، وهي في عمقها علاقة سميائية خاضعة لمبدأ التنظيم والتركيب . إن هذه العلامة تضع للتداول ثلاثة عناصر : ماثول ( أول ) يحيل على موضوع ( ثان ) عبر مؤول ( ثالث ) ويصبح هذا الأخير بدوره علامة تنبثق عنه سلسلة لامتناهية ( نظريا على الأقل ) من الإحالات .
إن العلامة عند بورس لا تنتج دلالة أحادية ومكتفية بذاتها ولا يمكن أن تُطرح وتُعزل بعيدا عن تحققاتها، إنها تولّد عددا من التمثيلات المتسلسلة ، يمكن النظر إليها بوصفها سيرورة تدليلية منتجة لمعرفة أكثر عمقا وتطورا .ولا يمكن للذات الإنسانية أن تفكر خارج هذه السيرورة .
إن كل الأشياء المرتبطة بالتجربة الإنسانية وتشتغل باعتبارها علامة ، يتم تداولها كذلك بوصفها سيرورة سميوزيسية تتحدد كتكثيف لهذه التجربة والممارسة بكل أبعادها وتجلياتها الذهنية والعملية . على هذا الأساس فإن تعريف العلامة ، كما ورد عند بورس ،لا ينفصل عن تعريف السميوزيس .
إن السميوزيس هي الوجه الآخر لعمليات الإدراك ، مما يجعل منها استعادة للمقولات الفلسفية الإدراكية الظاهراتية * التي تحكم كل الوقائع في “الآن” و”الهنا” . وخارج هذه السيرورة لن تحيل الوقائع سوى على قضايا مجردة عالقة عارية من التاريخي والثقافي ؛ أي عارية من الفكر والضرورة والدلالة والقانون . ويطلق بورس ” السميوزيس” أو السيرورة التدليلية أو فعل العلامة على السيرورة التي يشتغل بموجبها شيء ما بوصفه علامة ، وهي سيرورة تتصل بقضايا الدلالة وبكيفية إنتاجها وطرق اشتغالها ؛ » أقصد بالسميوزيس (…) الفعل أو التأثير الذي يستلزم تعاضد ثلاثة عناصر ؛ هذه العناصر هي ؛ العلامة وموضوعها ومؤوِّلها ، ولا يمكن لهذا التأثير الثلاثي العلاقة أن يُختزَل بأيّ شكل من الأشكال إلى أفعال بين أزواج « [7] . إن هذا التركيب الثلاثي للسميوزيس هو نفس التركيب الثلاثي الذي يتحكم في عملية إدراك العالم ، وهو إدراك ثقافي في عمقه .
من هنا نشير إلى أن إدراك الإنسان لذاته وللعالم الخارجي ، هو إدراك تبرمجه الثقافة انطلاقا من تسنينات دالة سواء كانت لفظية أو غير لفظية وهي تسنينات قادرة على تشييد عمل الإنسان وممارساته الاجتماعية ، انطلاقا من إنتاجه وتداوله واستهلاكه لكمّ هائل من الأنساق الثقافية والرمزية ( لغة ، دين أسطورة ، فن ، …) وكل نسق من هذه الأنساق أو الأشكال ليس نسقا تواصليا فحسب بل هو نسق تأويلي منمذِج للعالم . هكذا يصير كل نسق ثقافي نسقا تأويليا بما أن الظاهرة الثقافية قد أضحت المضمون الممكن لأيّ نشاط أو فعّالية تأويلية . مما يعني أن قوانين التأويل هي في العمق والأصل قوانين ثقافية .
والمحصلة النهائية ، هي أن كل شكل رمزي يشكل وحدة دلالية كما أن المدلول يضحى وحدة ثقافية . وعلى هذا الأساس ، يمكن القول إن أي فعالية أو شكل ثقافي يعود بالضرورة إلى السميائيات والسميائيات التأويلية أساسا.
فعوض دخول الإنسان في علاقة مباشرة مع الأشياء ذاتها نجده قد لفّ نفسه وأحاطها بأشكال رمزية وتأويلية لدرجة تعذّر معها عليه معرفة أيّ شيء دون دخول هذا الوسيط الإلزامي .
تقودنا هذه الجملة الأخيرة إلى نقطة أساسية في السميائيات التأويلية وعند بورس على الخصوص : ما طبيعة هذا الوسيط ، وما هي الحدود التي يفرضها علينا ؟ وكيف يخلق الواقع عوض أن يكون نسخة منه ؟ ثم كيف يشيّد بنياته وأنساقه ؟ في هذه المقاربة تكون مهمة السميائيات التأويلية هي الكشف عن هذا النسق وتوضيحه .
إن الأمر يتعلق بالضرورة ، في كل نسق تأويلي ، بوجود مظهرين ؛ مظهر مجرد أو كلي لا يحيل على أيّ شيء آخر سوى ذاته ومظهر آخر مجسّد قابل للإدراك والمعاينة ، وعلى هذا » فإن محتوى الفكر لا يكشف عن نفسه إلاّ من خلال تمظهراته ، إن الشكل المثالي لا يعرف إلاّ من خلال مجموع العلامات المحسوسة التي تساعده على التعبير« [8].
إن الانتقال من المجرد إلى المحسوس لا يتم بصورة اعتباطية ، بل بواسطة أشكال توسطية ثقافية ورمزية تربط بين المجرد والمحسوس أو بين النموذج ونسخته ، وهي أشكال تحدد العلاقات وصور التبادل الممكنة بين المستويين ؛ » فما بين المحافل الأصلية الأولى حيث تتلقى المادة المضمونية أولى تمفصلاتها وتتشكل باعتبارها شكلا دالا، وبين المحافل النهائية حيث تتجلى الدلالة من خلال لغات متعددة ، يمكن إدراج محفل للتوسط تنتظم داخله بنيات سميائية تمتلك وضعا مستقلا «[9].
إن هذه البنيات لصيقة بالفعل التأويلي،وهو فعل محكوم باستراتيجية تسعى إلى تحديد الطرق التي يتم بها تشكيل المعنى وتنظيمه داخل وقائع مادية قصد تداوله وتصريفه في أفعال وممارسات وسلوكات مخصوصة .
إن هذه الخاصية تجعل من السميائيات التأويلية نشاطا معرفيا متكاملا وهو نشاط لا يقتصر على ممارسة محدودة دون غيرها ، بل إننا نُلفي داخل هذا النشاط نموذجا تأويليا وتحليليا يأوي إليه كل الوقائع الدالة التي تنتجها الممارسة الإنسانية في أبعادها الفردية والجماعية .
فإن اللّغة تقوم بترميز العالم والواقع وحمله عبر النّص إلى الفهم، وعلى الرغم من هذا الفرق فإنه » وإذا كانت اللّغة ليست لذاتها وإنما لعالم تفتحه وتكتشفه، فتأويل اللّغة ليس متميزا أو مختلفا عن تأويل العالم «، [10] وبهذا فإن مهمة النّص هي تقريب الذّات من العالم عن طريق القراءة المفصلة للذات وللكتابة حيث يمكن تشكيل الحقيقة التي لا تغفل في جوانبها أنها تستقر في الذّات نفسها، لكن هذه الحقيقة معرضة للتوهم حينما تتم المماهاة المطلقة بين تأويل العالم وتأويل اللّغة إذ» إن مشكلة التأويل (..) ليست لا الخطأ بالمعنى الابستمولوجي، ولا الكذب بالمعنى الأخلاقي ولكنه الوهم «[11]. وعليه تصبح مهمة التأويل جوهرية في تخليص النّص والمعنى والحقيقة من الوهم خاصة وأن المصدر الأول لهذا الوهم هو غياب القراءة التي تعطي للنص تحققاته . فالنّص بهذا المعنى هو مستوى الإظهار بالنسبة للعالم، إنه يقوم بوظيفة تقليص المسافة الموجودة بين العالم واللّغة ويقوم التأويل بتقليص المسافة بين النّص والقارئ. ونشوء المسافة بين الذّات والعالم هو ما يحتاج إلى جهد تأويلي. إن هذا الجهد » لم يعد اليوم مستعارا من علوم الطبيعة ومنقولا إلى مجال غريب ؛ هو مجال الآثار المكتوبة ، ولكنه نابع ومنحدر من حقل اللغة نفسه بواسطة نقل تماثلي للوحدات الصغرى ( الوحدات الصوتية والوحدات المعجمية ) إلى مستوى الوحدات الكبرى التي تفوق الجملة مثل الحكاية والفلكلور والأسطورة . انطلاقا مما سبق ، فإن معنى التأويل ، (…) سيكون في خلق نقاش مع نموذج عقلاني ينتمي ، من حيث النشأة ، إن صح التعبير ، إلى ميدان العلوم الإنسانية ، وإلى اللسانيات بوصفها علما يحتلّ صدارة هذا المجال .
من هنا فإن فعلي التفسير والتأويل سيتجابهان فوق أرضية واحدة وداخل فلك واحد هو فلك اللغة «[12] .
وعلى هذا الأساس ، فإن القراءة التأويلية هي التي ترفع انغلاق النص وتزيل التعليق الذي يطال إحالة النص على عالمه الخارجي . هذه الإمكانية هي التي تشكِّل الوجهة الحقيقية لفعل القراءة ، لأنها هي التي تكشف عن الطبيعة الحقيقية للتعليق الذي يمسّ حركة النص في اتجاه الدلالة. وبهذا المعنى ، فإن الأشياء التي يقولها النص لا تنكشف عبر قراءة وصفية لا تتجاوز حدود السطح وما هو معطى بشكل مباشر ، بل عبر سبر أغوار انبنائه وأنساقه وتعالقاته ، وهي قراءة مُعرِضة عن القصود والنيات ومتجهة كما يقول ريكور نحو ما يقوله النص ونحو العالم الذي يُفتح عليه ، أي نحو ضرب وجودي آخر غير هذه القصود وهذه النيات ، أي نحو الإمكان أو الوجود الممكن .
» أن نقرأ معناه أن ننتج خطابا جديدا وأن نربطه بالنص المقروء ، هذا الارتباط بين فعل القراءة وبين الخطاب المقروء يكشف ، داخل تكوين النص ذاته ، قدرة أصيلة على استعادة الخطاب ذاته بشكل متجدد ، هذه الاستعادة هي التي تعطيه خاصيته المفتوحة على الدوام . والتأويل هو النتيجة المجسَّدة والاستعادة المتجددة لهذا الارتباط «.[13] ويتم بفعل هذا الارتباط التأويلي تجاوز الذات المؤوِّلة ذلك الاغتراب التاريخي للنص خاصة عندما يندرج هذا النص في إطارٍ أو سياق غريب عليه ولا يستوعب فيه ، وتجاوز الاغتراب هنا يقتضى عملية امتلاك appropriation وهو مفهوم يعني أن تجعل الذات ما كان غريبا عنها مِلكا لها . وهذا الامتلاك لا يمكن أن يتم إلا من خلال الحوار الذي يسعى إلى الفهم : فهم تاريخية النص وما يقوله لنا ، وهو فهم لا يمكنه أن يغفل في معقوليته نصّي التاريخ والثقافة .
على أننا من خلال مفهوم الامتلاك هذا لا نفهم العالم أو النص فحسب ، وإنما نفهم أنفسنا ونتعرف على ذواتنا أيضا . فنحن نعرف الذات على أفضل وجه من خلال السمات الإنسانية في حالاتها وتحولاتها التي طالما تجلت في الأعمال الفنية والثقافية ، وهذا هو ما عبر عنه ريكور في أكثر من مناسبة من كتاباته بقوله : “فما الذي كنا سنعرفه عن الحب والكراهية ، والمشاعر الأخلاقية وبوجه عام عن كل ما نسميه الذات، ما لم يتم التعبير عن كل هذا في اللغة والإفصاح عنه من خلال الأدب ؟
فعندما تشكّل المسافة التاريخية، والجغرافية والثقافية حاجزا أمام القارئ ، آنذاك يصبح وجود فنّ مخصوص أمرا لازما . وبهذا الشرط الأساسي يغدو التأويل وسيطا ثقافيا وإيديولوجيا لعبور ومقاومة هذه المسافة؛ »فمن بين غايات كلّ جهد تأويلي مقاومة كلّ مسافة ثقافية ، ويمكن لهذه المقاومة أن تُدرك ، بألفاظ زمانية محض ، بوصفها مقاومة للابتعاد الزمني الممتد عبر قرون أو عبر ألفاظ تأويلية حقّة بوصفها مقاومة للابتعاد عن المعنى ذاته أي الابتعاد عن نسق القيم الذي يقوم عليه النص . بهذا المعنى ” يُقرِّب ” ، التأويل ” ويساوي ” ويجعل الشيء ” معاصرا ومماثلا ” . وهذا كلّه يعني في الحقيقة أن التأويل يحوِّل ما كان غريبا إلى شيء خاص ومتملّك لدى المؤوِّل« [14] .والامتلاك هنا بلغة بول ريكور يعني » أن تأويل النص يجد تحقّقه داخل تأويل الذات المؤوِّلة لذاتها . وهي في تأويلها للنص تفهم ذاتها بشكل أحسن ومغاير وتبدأ في تحقيق ذلك الفهم الذاتي . إن اكتمال ذكاء النص هذا داخل ذكاء الذات هو الذي يميّز نوع الفلسفة التأمّلية التي سبق أن أسميتها ، في مناسبات عدّة ، التأمّل المجسَّد وهنا يتحقق الترابط والتكامل بين التأويلية وبين فلسفة التأمل . فمن جهة يمرّ فهم الذات عبر فهم علامات الثقافة التي من خلالها يمكن للذات أن توثِّق وتشكِّل نفسها . ومن جهة أخرى لا يكون فهم النص غاية في ذاته ، بل إنه يتوسّط علاقة الذات بذاتها ، التي لا تجد في التأمّل المباشر معنى لحياتها الخاصة. وعلى هذا الأساس يجب أن نقول (..) إن التأمّل لن يساوي شيئا دون توسّط العلامات والأعمال ، وأن تفسير النصوص لن يكون ذا أهمية إذا هو لم يكن عنوانا توسّطيا من خلاله تتم عملية الفهم ، وباختصار ، داخل التأمّل التأويلي ـ أو داخل التأويلية التأمّلية ـ يتزامن تشكّل الذات والمعنى معا « [15].
إننا إذا كنا فعلا ،لا نستطيع إدراك العالم وامتلاكه ثقافيا إلا بواسطة ما نمتلكه عنه من لغة و» ليست لدينا إمكانية أوملَكَة حدسية لتمييز مختلف الأشكال الذّاتية للوعي« [16] ،فإن الإمكانية الوحيدة المتوفرة لإنشاء علاقة بين الوعي في أبعاده الذاتية وعالم اللّغة إنما يتم في التأويل، حيث يشكل هذا الأخير وسيطا رمزيا وثقافيا وإيديولوجيا بين الذّات وبين العالم من خلال آلياته ومستوياته، وهو ما حمل بول ريكور إلى القول إن » الرمزي هو الوسيط الكلي والشامل للفكر بيننا وبين الواقع، إنه يعبر قبل كل شيء عن لا مباشرية فهمنا للواقع« [17] .
إن وظيفة الرمز هي في الأصل فتح عالم النّص على التعددية وعلى تأويلات متصارعة؛ أي إن الرمز يعيد تشكيل العالم بتمثلات اللّغة وإشاراتها، وكذا تنشيط فعل التخييل في الذّات، ففي الرمز تكمن ازدواجية المعنى، والمعنى المزدوج هو موضوع التأويل.
لذلك فقابلية العالم لأن يتحول إلى نص،لا يعدّ فعليا مرحلة نهائية للاقتراب من الحقيقة، بل يصبح للحقيقية دور مكثف ورمزي داخل الفعل التأويلي لأن هذه الحقيقة تتحول إلى علامات ورموز يلزم تأويلها وتفكيك سننها ،وفي التأويل تعبر هذه الحقيقة عن تعددها واحتمالاتها المشروطة بنصي التاريخ والثقافة . لهذه الغاية ، فإن النص موضوع التأويل ليس في واقع الأمر سوى الوجه المحقق والمشخص لسلسلة من القيم والوحدات المجردة التي يمكننا الحصول عليها من خلال تحويل الفعل من صيغه وأبعاده المباشرة القابلة للإدراك والمعاينة ليصبح هذا الفعل مصدرا حقيقيا لاستنتاج خلاصات مجردة ، منها ما يعود إلى نمط العيش ، ومنها ما يعود إلى طبيعة العقليات ، ومنها ما يخبر عن المعتقدات الدينية والإيديولوجية والأسطورية … والتأويل هو أداة التوسط الإلزامي بتعبير السميائي شارل ساندرس بورس بين عالم القيم المجردة وبين تحققاتها في الفعل الإنساني ودون إدراك هذه الحقيقية ، لن نعرف أبدا أن الفهم التاريخي يرتبط بالفهم التأويلي والرمزي .
لذا فإن عوالم الترميز أرحب وأوسع مدى من عوالم ” المعطى المحسوس ” فانطلاقا من هذه العوالم لا يكرر الإنسان تجربته الماضية ولا ينسخها ، وإنما يعيد بناءها وتشييد آفاق أرحب منها ، إن هذه العوالم تستلزم سيرورة تعرّف وتحديد وهي سيرورة مركبة ومعقدة. فالانطباعات والأحاسيس التي تكوّنها الذات عن نفسها لا ينبغي فقط أن تكرّر ، وإنما ينبغي أيضا أن ترتّب وتبحث لنفسها عن موقع وتحال على مختلف لحظات الزمن ، لهذا فإن الذاكرة الإنسانية من خلال الرمزي والثقافي ، ليست تكرارا أو استعادة للماضي وإنما هي ولادة جديدة تستلزم سيرورة الخلق والبناء ، ويبدو أن هذه الأطروحة أساسية خاصة إذا أدركنا أنه لا يكفي الوقوف على العناصر المعزولة لتربتنا الماضية ، وإنما يتعلق الأمر ، حقيقة ، بتجميعها وتنظيمها في منطقة ما من الذهن [18].
فهذه العوالم لا تكتفي، داخل هذا التمثيل، بصياغة صور مجردة تعد مقابلا رمزيا لحالات فعلية، بل تبني عوالم هي من صلب المخيال الإنساني وقدرته على خلق عوالم متحررة من القصديات ” الموضوعية “. فالتوسط الذي تقوم به حالات الاستعمال الاستعاري للأشياء والكائنات يقود إلى الفصل بين الدال – أداة التمثيل الأولى – وبين مدلول يبدو قريبا جدا من الذهن، فهو الغاية النهائية من أي تمثيل، إلا أنه يتراجع باستمرار إلى مواقع خلفية تمتنع عن الإشباع المطلق الذي قد توحي به عمليات التمثيل المتتالية [19].
إن الصياغة الرمزية للوجود، أي الإمساك بالمرجع الخارجي بوساطة اللغة وضمن إوالياتها في التقطيع والتمثيل والمفصلة، معناها رسمُ حدود عوالم منفلتة من إسار القصديات الأصلية وخاضعة لما يأتي به التمثيل الرمزي.
استنادا إلى كل ذلك، فإن التأويل يقتضي الانطلاق من معطى مباشر قابل للوصف اعتمادا على العناصر المرئية للعلامة، للانتقال إلى معنى ثان ( دلالة ثانوية ) يستدعي تعبئة معرفة تشترط إعادة تنظيم العمل استنادا إلى علاقات جديدة مبنية وفق ما يستدعيه الاستعمال الاستعاري للكائنات والأشياء، وذلك من أجل الوصول إلى تحديد المضمون الأصلي للعمل الفني. وبعبارة أخرى، تشكل الدلالة الجوهرية مبتغى وغاية كل تأويل. إنها في واقع الأمر المضمون النهائي الذي يجب أن يهتدي إليه المؤول وتتوقف عنده كل الإحالات [20] .
وبهذا المعنى، وجب النظر إلى النشاط التأويلي باعتباره ضرورة فلسفية تفرضها تشعيبات الوجود الإنساني وغموض نهاياته وضياع أصوله الأولى ذاتها. فالبحث عن ” جذور الحياة ” وعمقها وامتداداتها في أصول غابت عنا ولم نعد نعرف عنها أي شيء إلا ما تقوله نصوص مغرقة في رمزيتها رغم وجهها الحدثي المشخص يقتضي النظر إلى العمل الفني باعتباره حالات ترميزية في حاجة إلى التفكيك لكي تسلم مضمونها الحقيقي. إنه بهذا يعد جوابا عن أسئلة وجودية هي التي قادت إلى إعادة قراءة الموروث الإنساني وتأويله وفق إكراهات الزمن باعتباره كما متمفصلا في وحدات ثقافية تلغي المتصل وتعوضه بحالات افتراضية، تعد صيغة من الصيغ التي يتم من خلالها استعادة معنى قديم غيبته مسافات التاريخ وتوارى عن الأنظار في مجموعة من الأشكال الرمزية. فالمعرفة الحقيقية لا تكمن فيما قيل بشكل مباشر، بل فيما لم يقل، أو فيما تغطيه الرموز، إنها هي معرفة سرية لا يمكن الوصول إليها إلا إذا تمت إزالة الستائر التي تحجبها عنا [21].
فالسميائيات التأويلية تستمد فاعليتها إذن من تأويلها للوجود وإلحاق الفهم به، ومنه تتمكن من فهم العالم والذات من خلال استعادة علاقة الفكر بالوجود إلى مأوى تستطيع الذّات أن تثبّته لتراقبه وترصد من خلاله دينامية التدليل ، هذا المأوى هو اللّغة ولكي تحمل اللّغة الوجود المتعدد الدلالات لا بدّ أن تكون خطابا؛ « ومهمة التأويل هي إثبات أنّ الوجود لا يصل إلى المعنى وإلى التفكير إلاّ بالصدور عن تأويل متواصل لجميع الدلالات التي تحصل في عالم الثقافة، ثم إن الوجود لا يصبح ذاتا إنسانية (…) إلا بامتلاك هذا المعنى الذي يسكن “خارجا” في المؤلّفات والمؤسسات وآثار الثقافة حيث تُموضع حياة الفكر« [22] .
يظهر من خلال هذا أن السميائيات التأويلية تمتلك تسنينا فلسفيا ذا حمولة تهدف إلى الإمساك بالكائن لحظة تعبيره عن الوجود، وهذا يكون بطبيعة الحال بتأويل هذا التعبير، وكذا تأويل العلامات التي ينتجها؛ لأن هذه السميائيات تقوم على استراتيجية تنفلت من النفعي والمباشر ، وتستدرج من خلال هذه الاستراتيجية الوجود إلى اللّغة لتستطيع الإمساك بالكائن وفكره من خلال إشاراته وعلاماته وإحالته داخل عالم اللّغة أي عالم النّص .
إذ أن « فهم نص ما، هو أن نكون مستعدين لتركه يقول شيئا ما، لأن الوعي المشكل في التأويل يجب أن يكون مفتوحا بسهولة على تغاير النّص وتعدده (…) ، يعني أن نضع في اعتبارنا أننا مسبوقين، بكون النّص ذاته يعرض في تغايره، ويمتلك كذلك إمكانية معارضة حقيقته العميقة »[23] ، إذن فالنّص يتحول إلى “كائن يقول” وكذا يعبر عن كينونته الخاصة، وهي كينونة العالم الذي تحمله لغته، فالارتباط وثيق بين العالم واللّغة حيث لا يمكن حمل العالم إلى الفهم والتأويل إلاّ وفق مختلف الصيغ التعبيرية الصادرة عنها، فلفهم العالم يجب فهم اللّغة أولا، وإذا كانت اللّغة هي إنتاج ذاتي فإن الأمر يستدعي فهم العلاقة الممكنة بين الذّات واللّغة، وعليه فإن مقاربة العالم هي مقاربة اللّغة التي تفتحه،والاهتمام بالتأويل نابع أساسا من كونه يمثل تقاطع التمثلاّت التي يكوّنها العالم عن نفسه والتمثلاّت التي تكونها الذّات عن هذا العالم .
وتعدّ هذه التقاطعات ذات أهمية ، خاصة إذا أدركنا أن التأويل يمثلّ الفاعلية الأساسية لجهد الذّات في تحصيل الحقيقة وتشييد أنساقها المعرفية والإدراكية وكذا تخليصها من الوهم الذي تفرضه شروط وآليات مكوث هذه الحقيقة في الخطاب الميتافيزيقي المتصل الذي يعطي لنفسه صبغة القداسة والإطلاقية « فأهمية الفعل التأويلي وشموليته نابعة أساسا من كون الإنسان حيوان منتج للعلامات (…) وتأويل وفهم العلامات هما هنا من أجل هدف واحد هو توفير قاعدة وشروط موضوعية للفهم، وضمان (…) حقيقة تأويلية، يجب أن تختلف عن الحقيقة المنطقية البسيطة والحقيقة الميتافيزيقية « [24] .
وعليه فإنّ مهمّة التأويل تسعى إلى رصد الكينونة في أبعادها الإنسانية من أجل الفهم أي « التفكير في الوجود الإنساني كفعل للفهم والتأويل، كفكر وليس ببساطة كموضوع ومنه فإنّ الموضوعية ستكون مبنية على ذاتية الوعي« [25]؛ فالذّات هي من تنتج موضوعها وتتمثلّه . كما أنّ العالم لا يتقدم إلى الفكر إلا بتوسط اللّغة التي تنتقل من حامل لهذا العالم إلى العالم نفسه، والتأويل عندئذ هو فك سنن ورموز وخُدع هذه اللّغة وتحرير المعنى من فعل الكتابة وفتح عالمها على الذّات، فحسب دلتاي، التفسير والتأويل هما فن فهم التمظهرات المكتوبة للحياة [26] .
إذا كانت السميائيات التأويلية مرتبطة بفكرة التوسط الإلزامي الرمزي والثقافي ، وإذا كان هذا التوسط يشتغل بوصفه قاعدة عامة يتم بواسطتها إنتاج الدلالة وتداولها ،فإننا نستطيع النظر إليه بوصفه سننا يكثف داخله كل الأشكال والممارسات العامة للسلوك الإنساني ؛سواء كان هذا السلوك لغويا أو اجتماعيا أو سياسيا … وهي أشكال يتم تحيينها وتجسيدها في ممارسات خاصة ومحددة ومؤطَّرة في الزمان والمكان .
إن هذا الصنف من التأويل يؤكد حقيقة واحدة مفادها أن النشاط الإنساني قادر على إنتاج وتداول سلسلة من القواعد والضرورات التي تسمح بالتواصل وخلق حوار بين الذوات الإنسانية . وهذا الإنتاج يتم وفق وجود مناطق متعددة تعكس ثراء التجربة الإنسانية ، وتنوع هذه المناطق هو الذي يفسر تعدد التأويلات وغناها . بمعنى آخر ،إن السلوك الإنساني منظورا إليه في أبعاده وتجلياته المباشرة لا يمكن أن يحدد أو ينتج أي شيء ، ولا يمكن أن يدلّ من تلقاء ذاته ، إنه كذلك عندما تحتضنه الثقافة وتثريه بزخم هائل من الإيحاءات والقيم المضافة ، حينها فقط يمكن الحديث عن سلوك سميائي أو سلوك تأويلي ؛ أي عن فعل يُستوعب داخل عوالم رمزية .
وبهذا يظهر أن تأويل النّص وامتلاكه ثقافيا هو في الوقت نفسه تأويل وامتلاك للذات والعالم وتطوير لجهد كلاهما من أجل الانتماء إلى الوجود البعيد عن كل نفعية ومباشرية؛
أي إنه سيرورة تساهم في تحويل العالم من حالته العديمة الشكل إلى ما يحدد الأشكال المختلفة للإدراك ، انطلاقا من تمفصلات الدلالة ،إنه يحوّل العالم إلى أشكال وموضوعات ثقافية تلعب دور البرنامج ( والسلوك الإنساني ليس سوى تحقيق لهذا البرنامج ) وتشتغل باعتبارها تعليمات وآليات تهدف إلى خلق وضعيات جديدة يستطيع من خلالها الفرد بناء عالمه بصورة تجعله قادرا على فهم تجربته وتعميمها وتأويلها وتنظيمها في أشكال وصيغ قابلة للتحقق .إننا بمعنى آخر نصوغ من خلال هذا التأويل الواقع الذي نعيش فيه والعالم الذي نرغب أن نحياه.
::. د. عبدالله بريمي
::. أستاذ باحث في السميائيات والتأويل / المغرب.

ليست هناك تعليقات