قواعد الموقعة:
ليس استعمال اللغة سوى توليف بين وحداتها الصغرى من أجل تركيب مكونات
أعقد وصولا إلى سلاسل لفظية تشكل في مجملها حملا أو محمولات متعددة، لكن هذا التوليف
ليس اعتباطيا بل تحكمه ضوابط وأنظم تحدد مواقع ورتب وحداته الصغرى، ثم إن تضام
الوحدات اللغوية بعضها إلى بعض يختلف من لغة إلى أخرى وما يلاحظ من تغيرات في رتبة المكونات في اللغة
الواحدة إنما يدل على وجود قيود على رتب المكونات الكبرى داخل الحمل أو رتب مكونات
أصغر داخل المركبات الاسمية أو الحرفية أو الفعلية، والبحث اللساني الجاد والمثمر
هو الذي يبحث في النظام الذي يقيد الرتب داخل اللغة ولا يكتفي بالوصف.
إن نظرية النحو الوظيفي لم تغفل عن محاولة معالجة ظاهرة الرتبة في
قواعد استوحتها من مختلف اللغات، وهذه
القواعد هي قواعد الموقعة التي تنتظم بموجبها مختلف عناصر الجملة في المواقع التي
تسمح بها ضوابط السلامة اللغوية، وهذه القواعد تندرج ضمن قواعد التعبير التي تضبط
بدورها مظاهر التركيب في لغة ما، حيث ((تقوم بين العناصر المتواردة في البنية
التحتية سواء تعلق الأمر بمستوى الحد أم بمستوى الجملة ككل علاقات مختلفة دلالية
وتركيبية وتداولية إلا أنها لا تقوم بينها أي علاقة رتبية أو سلسلية ويحتم هذا
الوضع صوغ قواعد موقعة تضطلع بترتيب العناصر داخل الحد والعناصر داخل الجملة
ويتحتم كذلك البحث عن مبادئ عامة تكون بمثابة ضوابط كلية لهذه القواعد))[1].
تتفاعل في تحديد الرتبة داخل الجملة حسب النحو الوظيفي عوامل ثلاثة،
الوظائف التركيبية والوظائف التداولية[2]
والتعقيد المقولي للمكونات، أما الوظائف الدلالية فقد درج في النحو الوظيفي على
اعتبار الوظائف الدلالية غير مؤثرة في ترتيب المكونات، ولكنها تسهم في تحديد رتبة
المكونات التي لا وظيفة تركيبية لها ولا وظيفة تداولية[3].
وتترتب المكونات في الجملة في اللغة العربية حسب البنية الموقعية
الآتية:
المواقع في الجملة الفعلية[4]:
م4، م2، م1 مØ فعل فاعل
(منفذ) (صفة) ، م3.
المواقع في الجملة الاسمية:
م4، م2، م1 مØ فاعل {مركب"اسمي، صفة، ظرفي، حالي"}
(مفعول) (صفة)، م3.
المواقع في الجملة الرابطية:
م4، م2، م1 مØ ط فاعل
{مركب"اسمي، صفة، ظرفي، حالي"} (مفعول) (صفة)، م3.
•م1: أدوات الاستفهام والشرط
والمؤكدات...
•مØ: المكونات التي تلحق بها
الوظائف التداولية البؤرة والمحور.
•م4، م2، م3:
مواقع المبتدأ والذيل والمنادى.
•فاعل، مفعول: مواقع تحتلها وظيفتي
الفاعل والمفعول.
وتنتمي اللغة العربية الفصحى إلى اللغات المقول
عنها أنها ذات رتبة حرة ويستدل على ذلك عادة بالجمل:
-
فقه الطالب الدرس.
-
الطالب فقه الدرس.
-
الدرس فقه الطالب.
-
فقه الدرس الطالب.
لكن الواقع أنها ليست حرة فالرتبة في اللغة العربية ليست حرة إلا
بالنظر إلى الوظائف التركيبية "الفعل والمفعول" التي تضطلع بتحقيقها
العلامة الإعرابية فليست الجمل السابقة مترادفة يمكن معاقبتها في نفس المقام
وإنتاجها على أساس تأديتها لنفس الغرض وإن تماثلت وحداتها المعجمية والعلاقات
الدلالية والتركيبية التي تقوم بين هذه الوحدات[5].
ويمكن الاستدلال على أن الرتبة في العربية ليست حرة بالأمثلة:
- علّم موسى عيسى.
- علّم عيسى موسى.
فالعلامة الإعرابية هنا لا تضطلع بتحديد الوظائف التركيبية لأنها
مقدرة منع من ظهورها التعذر، فالرتبة هنا ليست حرة ويتوجب تقديم الفاعل على
المفعول، ففي الجملة الأولى يكون موسى معلم وعيسى متعلم، وفي الجملة الثانية تنقلب
المفاهيم ليصبح عيسى معلم وموسى متعلم.
ويقدم المتوكل مفهوما للرتبة فيقول: (( يقال عن مجموعة من العناصر
بوجه عام إنها مرتبة إذا كانت تشكل سلسلة تتوالى وحداتها خطيا كما هو الشأن
بالنسبة للمتوالية التالية: [ أ + ب + ج + د ]، وتتضح علاقة السلسلية حين تقارن
بعلاقتين أخريين: (أ) علاقة المجموعة و(ب) علاقة السلمية، نكون أمام مجموعة حين
نكون أمام عدد من العناصر تجمع بينها خاصية ما أو خاصيات ما، ويمثل عادة لعلاقة
المجموعية على الشكل التالي: {أ، ب، ج، د}، تقوم علاقة المجموعة هذه في اللغة بين
العناصر المترادفة التي يمكن أن تتعاقب في نفس السياق ففي الجملة أسفله مثلا تشكل
المفردة الشاي مع مرادفاتها "المفردات التي يمكن أن تعاقبها في الجملة"
مجموعة تتآسر عناصرها في خاصية السائل المشروب))[6].
-
شرب الضيف {القهوة/الشاي/ اللبن}.
وتقوم في نفس الجملة علاقة سلمية بين عناصر المركب"محدده
ورأسه" باعتبارها تندرج في مقولة واحدة من جهة وبين المركبات والجملة من جهة
ثانية.
بمعنى أن الترتيب بين عناصر الجملة هو توارد خطي حيث تكتسب بعض
العناصر أسبقية الذكر بالنسبة لعناصر أخرى، والعلاقات التي تحكم هذا التوارد الخطي
هي علاقات دلالية تركيبية تداولية والبحث فيها هو بحث في قواعد الموقعة.
تحدد رتبة المكونات حسب النحو الوظيفي كل من الوظائف التركيبية
والوظائف التداولية ودرجة التركيب المقولي للمكونات، وهذا الترتيب ناتج عن التفاعل
بين ثلاثة اتجاهات[7]:
•
نزوع المكونات الحاملة للوظائف نفسها إلى احتلال المواقع نفسها.
•
ونزوع بعض المكونات إلى احتلال الموقع الصدر في الحمل"الأدوات
المؤشرة للقوة الإنجازية والأدوات الدامجة والمكونات المحاور والبؤر".
•
ونزوع المكونات الأكثر تعقيدا حيث ينزع المركب الاسمي إلى أن يتأخر
عن الضمير وحيث تنزع الجملة المدمجة إلى أن تلي المركب الاسمي.
يتلخص موقف النحو الوظيفي من إشكالية الرتبة في ما يلي:[8]
o
ليست الرتبة آيلة إلى الوظائف التركيبية وحدها وإنما تحكمها الأنماط
الثلاثة من الوظائف التركيبية والدلالية والتداولية.
o
تتفاعل هذه الوظائف في تحديد الرتبة وفق سلمية تكون فيها الغلبة
للوظائف التداولية.
o
يصدق التفاعل بين هذه الوظائف على المكونات الداخلية فقط أما الوظائف
الخارجية فرتبتها قارة موكولة إلى الوظائف التداولية أصلا.
o
يترتب عن إسهام الوظائف في تحديد الرتبة أن مفاهيم اللغات ذاتية
الرتبة، والرتبة المحايدة، والرتبة الأصل تصبح غير واردة
o
يتم تحديد الرتبة في مستوى شبه سطحي بنية المكونات بواسطة قواعد
موقعة تتخذ دخلا لها بنية دلالية تداولية غير مرتبة لا طابع تحويلي لهذه القواعد
إذ إنها لا تنقل بنية رتبية إلى بنية رتبية أخرى.
هذه النقاط تزكي القول بأن منطلق نظرية النحو الوظيفي هو ربط البنية
بالوظيفة، وكذا أسبقية الثانية على الأولى، فإذا أسندت لمكون ما إحدى الوظائف
التداولية فإنه يحتل الموقع الذي تقتضيه هذه الوظيفة أيا كانت وظيفته التركيبية
وأيا كانت وظيفته الدلالية، وإذا ورد مكون ما حاملا لوظيفة دلالية ووظيفة تركيبية
ولم يكن مسندة إليه أي وظيفة تداولية فإنه يحتل الموقع الذي تقتضيه وظيفته
التركيبية، أما إذا تعلق الأمر بمكون لا يحمل وظيفة تركيبية ولا وظيفة تداولية
فإنه يتموقع بمقتضى الوظيفة الدلالية التي يحملها، حيث يحتل هذا المكون أحد مواقع
الحيز الموقعي المخصص للمكونات التي لا وظيفة تركيبية لها ولا وظيفة تداولية
تخولها احتلال موقع خاص[9].
والمواقع في البنية صنفان، مواقع داخلية "أدوات الصدور، فعل،
فاعل، مفعول"، وموقعان خارجيان
"موقع المبتدأ، موقع الذيل".
وتخضع قواعد الموقَعَة إلى (قيد أحادية الإسناد أو الموقع)، حيث أن
هذه القيود هي التي تضبط إسناد الوظائف للمكونات، وعليه فإن قيد أحادية الموقع
تشترط أن:
لا يحتل الموقعَ أكثر من مكون واحد، وبمعنى آخر أن لا يكون للمكون
أكثر من وظيفة من كل نوع من الوظائف الثلاثة، فلا يمكن للمكون أن يحمل وظيفتي
الفاعل والمفعول في نفس الحمل.
كما لا يمكن للموضوع الواحد أن يحمل وظيفتي البؤرة والمحور في نفس
الحمل[10].
وعلى
هذا فإن تأثير الوظائف الدلالية في ترتيب المكونات يبدو بارزا في النحو الوظيفي،
وهذا ما يبين التفاعل بين الوظائف الثلاثة في تحديد المواقع كما هو موضح في سلمية
تحديد المواقع:
[1] )
المتوكل أحمد، قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، بنية المكونات
أو التمثيل الصرفي التركيبي، دار الأمان، دون ط، الرباط، 1995، ص 221.
[2]) المتوكل أحمد، اللسانيات الوظيفية مدخل نظري،
دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الثانية، بنغازي، 2010، ص 176.
[4] ) المتوكل أحمد، الوظائف التداولية في اللغة العربية، دار الثقافة، الدار
البيضاء، الطبعة الأولى، 1985، ص 158.
[5])
المتوكل أحمد، التركيبات الوظيفية قضايا ومقاربات، مكتبة دار
الأمان،الرباط،الطبعة الأولى، 2005، ص 32/33.
[6] ) المتوكل أحمد، اللسانيات الوظيفية مدخل نظري،
دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الثانية، بنغازي، 2010، ص 174.
[8] ) المتوكل أحمد، قضايا اللغة
العربية في اللسانيات الوظيفية، بنية المكونات أو التمثيل الصرفي التركيبي، دار
الأمان، دون ط، الرباط، 1995، ص 231.
[9] ) المتوكل أحمد، من البنية
الحملية إلى البنية المكونية الوظيفة المفعول في اللغة العربية، دار الثقافة،
الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1987، ص 46/47.
[10] ) المتوكل أحمد،
الوظائف التداولية في اللغة العربية، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى،
1985، ص 39/41.
[11] ) المتوكل أحمد، اللسانيات الوظيفية مدخل نظري،
دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الثانية، بنغازي، 2010، ص 148/149.
ليست هناك تعليقات