المحاضرة الأولى لمقياس المقاربات النقدية المعاصرة ثانية ليسانس "د أ،د نق، د لغ" للموسم 2022/2023:
المستوى: ثانية
ليسانس السداسي:
04. المقياس:
مقاربات نقدية معاصرة . د. جلول تهامي.
المحاضرة الأولى لمقياس المقاربات النقدية المعاصرة ثانية ليسانس "د أ،د نق، د لغ" للموسم 2022/2023:
توطئة:
يؤدي السياق دورا كبيرا في قراءاتنا؛ فلا
يُمكن لنا تصور قراءة دون سياق يُحدد المعنى المرجو منها، كما "يشكل السياق
في كل قراءة أحالت على "خارج" حضورا يحيل إلى خلفيتها الفكرية وحيثياتها
المعرفية، ومما يؤكد لنا الارتباط الوثيق للقراءة بالسياق استحالة تصور قراءة بلا
سياق، والذي ينقسم بدوره إلى انواع من السياقات، منها ما هو تاريخي[1]،
وما هو اجتماعي[2]،
وما هو نفساني[3]،
وغير ذلك.
يعمد الناقد في سبيل قراءة النصوص الأدبية[4]
آليات قراءة تكون المفتاح الذي يفك به مغاليق النّصوص[5] و التعمق
فيها لا كقارئ عفوي قد يتوه في جنباته لحظة ما، فيكتفي بنيل شرف النزهة و المتعة
فقط، وإنّما كقارئ حَذِق يعرف جيدا أن الهدف من القراءة يتعدّى المتعة إلى تعليل
الذوق بالبرهان والحجّة.
و
الحجّة في النقد هي المنهج النقدي بكلّ ما تجود به عدّته المفاهيمية و ما توفّره
أدواته الإجرائية، فـالنقد بلا منهج قضية غير قابلة للبرهنة والنقاش، فالمنهج هو
السبيل والطريقة التي نسلكها لأجل قراءة النّص الأدبي.
ما الأدب إذن؟
لمْ يعُد الأدب مقصورًا على الكلمة المكتوبة
ولم يعُد مرتبطًا بأنماط السلوك، بل أصبح فنًّا جميلًا - مكتوبًا أو شفهيًّا -
يتوسل باللغة[6]؛
أي: إنه يشترك في جوهره مع سائر الفنون التشكيليَّة والغنائيَّة والتمثيليَّة
إنّ مَعْنَى "الأدَب" فِي الأصْل اللُّغَويِّ مَأخُوذٌ مِن
"مَأدُبَة" أيِ: الطَّعام الّذي يُدْعَى إلَيه الناسُ.. ولِذلكَ كانَ
مَعْناهُ فِي الاصْطِلاح يشْمَل: التَثْقِيفَ والتَهْذيب فِي العَقْلِ والشُعُورِ،
فَكَمَا أنَّ الطَّعَامَ يُغذِّي الأبْدانَ؛ فإنَّ الأدَبَ يُغذِّي الوِجْدانَ.
والإنسانُ مَهْمَا بَلَغَ في الِعلْمِ، إذَا
لَمْ يَتعلّم الأدَب[7]،
فَلَسَوْفَ يَبقَى ناقِصًا!
يسمح التعرّف على المناهج النقدية بانفتاح
النص أمام القارئ، و يتيح له مقاربته وفق ما يقتضيه النّص؛ باعتبار المنهج لا يفرض
نفسه على النّص وإنّما يحترمه، وكلما زادت المعرفة بالمناهج زاد توقير النّص.
فكل المناهج تريد فتح النّص لأجل غايات و
مقاصد مختلفة تختلف بموجبها المفاهيم الأدوات والوسائل، ما يجعلنا نتوقع قراءات
متعدّدة له بوصف النّص تركيبا مفحما ببنيات مدهشة جمعت بين إحكام البناء وتنوّع
المضامين والدلالات.
والمناهج وإن اختلفت تلتقي في نقاط تماس معيّنة،
تكون كل نقطة منها محطة استفزاز أو تحفيز لأجل ظهور منهج آخر، فاستفزّت المناهج
السياقية المناهج النسقية بإعطائها السلطة مطلقة للمؤلّف، و أعطت الشكلانية في
طرحها الشجاع لمبادئها -سيما ((الأدبية))- الحافز لولادة مناهج نسقية ثقيلة في
الميزان النقدي كالبنيوية والسيميائية والتفكيكية والأسلوبية، ودفع جمع الاهتمام بين
السياق الخارجي و البنية الداخلية للنّص إلى ظهور البنيوية التكوينية وأدى
الانفتاح على القارئ إلى ظهور نظريات التلقي.
و مع هذا؛ علينا أن نعي جيدا أن المناهج
النسقية ما كانت لتتجرأ على السياق و تدعو إلى استقلالية الأدب و دراسته لذاته و
لأجل ذاته لو لم يأخذ النّص حقه كاملا من السياق؛ لو لم يتم بحثه من النواحي
التاريخية و الاجتماعية والنفسية، و ما كان النّقد ليتحوّل إلى القارئ لو لم
يستنزف النص من الداخل... وما كان لأيّ منهج أن يظهر لو لم تسبقه نظريات نقدية
تختلف أو تتقاطع معه أو الاثنين معا.
المقاربة السياقية و المقاربة النسقية:
تسعى المقاربات النقدية إلى محاولة إعطاء
فهم و قراءة للنصوص الأدبية وفق منهج معيّن، والمنهج هو إطار علمي يساعد على كشف
جماليات النصوص وفهم مكوّناته وأبعاده الدلالية، إذ هو المفتاح الإجرائي الذي
يساعد على كشف بواطن النصوص وحقائقها[8].
أمّا المعاصرة فهي مفهوم متحوّل وليس ثابتا
لأنه لا يرتبط بلحظة زمنية معينة بقدر ما يرتبط بتحوّل جذري على مستوى الرؤية
والتصوّر، فمفهوم المعاصرة في التاريخ ليس هو ذاته في علم الاجتماع و هو ليس ذاته
في مجال آخر، بل إنّ المعاصرة في الأدب ليست هي ذاتها في النقد؛ فالمعاصرة في
الأدب تبدأ منذ لحظة ظهور القصيدة الحرة على يد الثالوث العراقي (عبد الوهاب
البياتي، نازك الملائكة، و بدر شاكر السياب) بينما ترتبط المعاصرة في النقد بلحظة
ظهور مصطلح الأدبية الذي ظهر على يد الشكلانيين الروس وأحدث تغيّرا جذريا في قراءة
النصوص الأدبية إذ تحوّل النّقد من السياق إلى النسق، فسميت كل المناهج التي أبعدت
الأدبية عن اهتمامها بالمناهج السياقية، وسميت المناهج التي نادت بأدبية النص
الأدبي بالمناهج النسقية.
1- المقاربة السياقية :
هي مقاربة تعتمد الإسقاطات السياقية
والأحكام التذوقية والملابسات الخارجية في تحديد مقاصد النص دلالاته، فتشتغل على
نقد النّص متصلا بما حوله من أحوال نفسية وظواهر اجتماعية وأحداث تاريخية، ما يعني
أنّ عملية نقد النص وِفقَها تذوّقا وتحليلا وكشفا لا تتم إلا وهو متصل بالعوامل
الخارجية منذ إبداعه حتّى تلقيه، فالنّص يمثل مبدعه ولغته انعكاس لعناصر محدّدة
خارج النّص.
تنظر المقاربة السياقية (التاريخية، النفسية،
الاجتماعية، الأنثروبولوجية)[9]
للنّص بوصفه أثرا للإحالات الخارجية لتحقق غايتها المتمثلة في بحث هذه الإحالات وكشفها
وتحليلها وتفسيرها، معزّزة بذلك ما سمي (سلطة المؤلف) ومصادرة إمكانيات النص
والقارئ، يأتي هذا لأنّ إطارها المعرفي لم يخضع لهيمنة اللسانيات البنيوية بل
اعتمد بشكل أساس على توظيف الدّلالة الفكرية و الثقافية المقيمة خارج النص من
نفسية المبدع وأحوال اجتماعية و أحداث تاريخية.
2 - المقاربة النسقية ( النصية، النصانية):
هي اتجاهات انطلقت من اللسانيات البنيوية
وتمثلت مبادئها مثل (البنيوية[10]،
التفكيكية[11]،
السيميائية[12]،
الأسلوبية[13])،
تشتغل على النّص من الدّاخل بعيدا عن كل المتعلقات الخارجية، فتحاول كشف أبنية
النّص الأدبي مُظهرة الأنساق التي تحتكم إليها وطرق قيامها بوظائفها، لأنّ هذه
الأبنية النسقية الداخلية هي ما يحقق أدبية النص وليست مضامينه الاجتماعية أو
التاريخية أو النفسية، فجاءت هذه المناهج لتبحث أدبية الأدب باعتبارها قضية لم
تخصص لها المناهج السياقية جهدا بل فتشت عن كلّ شيء في الأدب إلَّا الأدب.
[1] تطوّرت القراءة التاريخية عما كانت عليـه
سـابقا، فبعدما كانت عبارة عن أحكام انطباعية، استنت لنفسها بعـض المبادئ
والقوانين التي يجب العمل بها لتحقيق أكبر قدر ممكن العلمية والموضوعية، بدأ ما
يسمى بالنقد العلمي شكلا مبكرا للنقد التاريخي، حيث ظهر لدى هيبوليـت تـيـن (1828-
1893) في ثلاثيته العتيقة (العرق-البيئة- الزمان)،التي تجسد حتمية كون الانسان
نتاج الوراثة والبيئة تجسيدا طبيعيا تحـت وطأة الفلسفة الداروينية" (...) ، وتمظهر ايضا في الدراسة التطورية للأجناس والألوان الأدبية، وكذلك عند(سانت بيف saint pif ) (1869-1804)"(4). وكذلك عند الناقد (غوستاف
لانســـــون Gustave Lanson) (1934-1857)
فهو الرائد الأكبر للمنهج التاريخي في النقد، فقد قدم محاضرة حول الـروح العلمية
منهج تاريخ الأدب، في جامعة بروكسل سنة 1909.
[2] المنهج الاجتماعي
يحاول دراسة النصوص الأدبية في ضوء الظروف الاجتماعية التي ولد في ظلالها، يلاحظ
ان الأدب ظاهرة اجتماعيـة شـانها شان الظواهر الاجتماعية الأخرى التي تتأثر
بالمجتمع وتُؤثر فيه، وليست عالما وهميا أو خياليا، أو حتـى ذاتيـا غيـر خـاضــع
لظرف معين، أو انعكاسات حضارية معينة، فلقد مضى الزمن الذي يعد الأدب مخلوقا يهبط
من السماء على شكل ملائكة أو شياطين أو جن أو آلهة خاصة ما عُرف عن آلهـة الشـعر والفن
عند اليونان وشياطين الشعر في الشعر العربي.
[3] إن التحليل النفسي في النقد والأدب بـرز فعليـا مــع سيغموند فرويد،
الذي يرى أن العمل الأدبي موقع أثري لـه طبقات متراكمة من الدلالة،
ولا بد بالتالي من كشف غوامضــه وأسراره وذلك
بالبحث عن حياة المبدع، والتي تكون سببا لا
محالة في تكوين شخصيته التي تنعكس بدورها على ما يُبدعه من
نصوص أدبية. إن لكل عمل أدبي مظهرين: أحدهما خفي
وثانيهما ظاهر، أما الظاهر فهو واضح، وأما الخفي فعلـى الناقد النفسي ان يستعين
بكل الأدوات والإجراءات التي تُمكّنه من الوصول إليه، وذلك بالاستعانة بالمنهج
النقدي النفسي، حيـث "يمـعـن هـذا المنهج في البحث عن الدوافع التي أفضت إلى
اصطناع هذه اللغة بالذات دون سواها، أي أن معرفة كنه نفس المبدع في حد ذاته من
خلال دراسة هذه اللغة.
[4] تعريف الحسن بن سهل (ت 236هـ) للأدب: "الآداب عشَرة:
فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربَت عليهنَّ، فأما
الشهرجانية، فضربُ العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج، وأما الأنوشروانية، فالطبُّ
والهندسة والفروسية، وأما العربية، فالشعر والنسب وأيام العرب، وأما الواحدة التي
أربت عليهن، فمقطَّعات الحديث والسمر وما يتلقّاه الناس بينهم في المجالس.
[5] الأدب بمعناه
الخاصِّ: هو كل ما يؤثِّر في النفس من نثـرٍ رائع وشعرٍ جميلٍ، يُراد به التعبير
عن مكنون العواطف والضمائر وسوانح الخواطر
بأسلوب إنشائيٍّ أنيق، يُطلَق على الشعر والنثر الفنيِّ فحسْب.
[6] طه حسين
عرَّف الأدب بأنه "فن جميل يتوسل بلغة".
[7] قول للشافعي: مَن نظَرَ في العرَبيَّةِ وحَفِظَ الشِعْر؛ رَقَّ طَبْعُه
[8] عبد الله خضر محمد ، مناهج النقد الأدبي السياقية و
النسقية، دار القلم للطباعة والنشر، بيروت، (د، ت)، ص 13.
[9] كما شرحنا سابقا ص 01.
[10] البنيوية أو
البنائية هي نزعة مشتركة بين عدّة علوم كعلم النفس، وعلم السلالات لتحديد واقعة
بشرية بالنسبة إلى مجموع مُنظم، فهي نظرية قائمة على تحديد وظائف العناصر
الدّاخلية في تركيب اللغة، ومُبينة أن هذه الوظائف المحدّدة لمجموعة من الموازنات
والمقابلات هي مندرجة في منظومات واضحة، وليس للعناصر وجود مستقل إلا من خلال تحديد الوظائف العامة. ولم تعد المنهجية البنيوية تقتصر على
المجال اللساني وحده. بل تُبَنْينُ كل شيء، إذا
جاز لنا أن نستعمل هذا التعبير، تُبَنْينُ المجتمع واللاشعور والثقافة والأدب
والفكر والسينما والمسرح والمطبخ واللباس والإعلانات الإشهارية، وكل مرافق الحياة
الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية.
[11] الفرنسي"جاك
دريدا" رائد المنهج التفكيكي في كتابه "علم الكتابة"، وحسب هذا
المذهب لا يمكن الوصولُ بشكلٍ من الأشكال إلى فهمٍ واستيعابٍ كاملٍ أو متماسكٍ
للنص الأدبي مهما كان هذا النصُّ، فالقراءةُ وتفسير النصوص الأدبية بشكلٍ عامّ هي
عملية ذاتية يقومُ بها القارئُ وكلُّ قارئٍ يمكن أن يفسِّرَ النصَّ حسب رؤيته
وحسبَ مشاعره وظروفه المحيطة وتجربته التي تؤثر جميعُها في قراءته لهذا النصِّ، وبناءً
على هذا الرأي فإنَّه من المستحيل أن يوجدَ نصٌّ ثابتٌ متكاملٌ متماسكٌ بذاته. و هو فيلسوف فرنسيٌّ ولدَ في 1930، عيِّنَ
أستاذًا للفلسفة في جامعة السوربون، وتابعَ مسيرته من هناك إلى أن توفِّيَ في 2004، هو رائد المنهج التفكيكيِّ وصاحب نظرية
التفكيك في العصر الحديث، وقد طالت نظريَّاته العديد من العلوم كالعلوم الاجتماعية
وعلم الجمال وعلم الأخلاق والفنون، ومن أقواله الشهيرة: "ما لا يُمكنُ قولُه،
لا يَنبغي السُّكوتُ عنهُ، ويكفِي أنْ يكتبَ".
[12]عبارة
عن لعبة التفكيك والتركيب، وتحديد البنيات العميقة الثاوية وراء البنيات السطحية
المتجلية صوتيا، وصرفيا، ودلاليا، وتركيبيا. ومن ثم، تستكنه السيميوطيقا مولدات
النصوص وتكوناتها البنوية الداخلية، وتبحث عن أسباب التعدد ولانهائية الخطابات
والنصوص والأعمال السردية، وتسعى إلى اكتشاف البنيات العميقة الثابتة، وترصد الأسس
الجوهرية المنطقية التي تكون وراء سبب اختلاف النصوص والجمل والملفوظات والخطابات.
ومن ثم، فالسيميوطيقا لا يهمها ما يقول النص، ولا من قاله، بل ما يهمها هو "كيف
قال النص ما قال"، بمعنى أن السيميوطيقا لايهمها المضمون ولا حياة
المبدع ولا سيرته، بقدر ما يهمها شكل المضمون. ومن هنا، فالسيميوطيقا دراسة
شكلانية للمضمون، تستنطق الشكل إن تفكيكا وإن بناء ، وإن تحليلا وإن تأويلا،
لمساءلة الدوال من أجل تحقيق معرفة دقيقة بالمعنى سطحا وعمقا.
[13]
مرحلة الأسلوب مع الأسلوبيّة والبلاغة الجديدة: ولم تظهر الأسلوبيّة إلا في أواخر القرن التاسع
عشر وبداية القرن العشرين لوصف الأسلوب في مختلف تجلّياته الصوتيّة، والإيقاعيّة،
والصرفيّة، والتركيبيّة، والدلاليّة، والبلاغيّة، والتداوليّة؛ مع تبيان مكوّناته
الثابتة، واستكشاف سماته النوعيّة، واستجلاء فنّيّاته وجماليّاته المتعدّدة
والمتنوعة. وذلك كلّه في علاقته بالمتلقّي، أو المستقبِل من جهة، ومراعاة
المقصديّة من جهة ثانية. ومن باب العلم، فقد قامت الأسلوبيّة على أنقاض البلاغة
التقليديّة المعياريّة والتعليميّة التي بقيت – فترة طويلة – حبيسة الصور
البيانيّة، والمحسّنات البديعيّة.
ليست هناك تعليقات