التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

السلسلة الثانية لتطبيقات موسيقى الشعر العربي "02 ماستر" للموسم2024/2025:

 

المستوى: ثانية ماستر  لسانيات   السداسي: 03.     المقياس: موسيقى الشعر العربي.      د. جلول تهامي.

السلسلة الثانية لتطبيقات  موسيقى الشعر العربي  "02 ماستر"  للموسم4202/2025:

تعريف الــــوزن :

الوزن في اللغة كيْل الشَّيء وبيان مقداره واختبار ثقله وخِفّته  وامتحانه بما يُعادله، وهوثقل شيءٍ بشيءٍ مثله كأوزان الدَّراهم، ويقال إذا كاله فقد وزنه أيضاً، ويُقال : وزنَ الشَّيء إذا  قدّره، ووازنه: عادله وقابله، ويُقال للآلة التي توزن بها الأشياء ميزاناً، والميزان المقدار، وأوزان العرب ما بَنت عليه أشعارها، واحدها وزن، وقد وزن الشّعر وزناً فاتّزن ([1]).

ويرتبط الوزن ارتباطاً وثيقاً بالشّعر فلم يكد يُعرف للشّعر تعريف خلا من لفظة " الوزن " أو إحدى مشتقاتها،وهذا ما جعل الوزنَ رُكناً ركيناً في الشّعر، إذا سقط الوزن سقطَت معه شعريّة هذا الشّعر  وللوزن وظيفة تمييزيّة بين الشّعر والنّثر جعلت من ابن رشيق  يقول عنه :" الوزن أعظم أركان حدِّ الشّعر، وأولاها به خصوصيّة ... " ([2]) .

 وينظر الفلاسفة المسلمون للوزن في الشعر على أنه وسيلة من وسائل المحاكاة أوالتخييل لكنهم في الوقت نفسه حرصوا على تأكيد أن القول لا يكون شعرا إلا إذا اجتمع فيه المحاكاة والوزن معا، وعلى الرّغم من إلحاحهم على أن المحاكاة (الاستخدام الخاص للغة ) والوزن هما العنصران الجوهريان اللذان يميزان الشعر عن غيره من ألوان القول، فإنهم جعلوا الأولوية المطلقة لعنصر المحاكاة على عنصر الوزن، ذلك أن المحاكاة هي السمة النوعية الخاصة التي تكسب القول سمة الشاعرية[3] .

في حديث ابن رشيق عن أصالة أوزان الشّعر العربي يقول : "فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطِيب أعراقها وذكر أيّامها الصَّالحة، وأوطانها النّازحة، وفرسانها الأمجاد، وسُمحائها  الأجواد، لتهزَّ أنفُسها إلى الكرم وتدلّ أبناءها على حُسن الشّيَم فتوهّموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلمّا تمَّ لهم وزنه سمَّوه شعراً " ([4]) .

ويستزيد القول في الوزن فيقول" والمتّزن ما عُرض على الوزن فقبله، فكأنّ الفعل صار له، ولهذه العلّة سُمّيَ ما جرى هذا المجرى من الأفعال مطاوعة. هذا هو الصَّحيح "([5]) .

وعلى حدِّ قول  ابن رشيق  "والمطبوع مُستغنٍ بطبعِه عن معرفة الأوزان وأسماعها وعللها لنمو ذوقه عن المُزاحف منها والمُستكره، والضّعيف الطّبع مُحتاج إلى معرفة شيء من ذلك بعينه على ما يُحاوله من هذا الشّأن" ([6]) .

وأوّل من ألّف الأوزان وجمع الأعاريض والضّروب  الخليل بن أحمد "فوضع فيها كتاباً سمّاه "العروض" استخفافاً ... "([7]) . فللشّعر العربي أوزان استنبطها الخليل بن أحمد وصنّفها في بحوره الخمسة عشر ودوائره الخمس فأسَّسَ بعمله هذا علم العروض الذي أصبحَ ضابطاً  للوزن، ومشاهداً بصحَّته بعدما كان الذَّوق وحده مرجعاً في السّلامة الوزنيّة للشّعر .

ولم يفـرق الدارسـون والنقـاد بين الشّعر والنثـر إلا بتحديدهم لمفهــوم الـوزن، فقـد جاءت الدّراسـات النّقديّـة حافلـة به وذلك لأهمّيّـة البعد الوزني في بناء القصيدة العربيّة، وقيمته المُتميّزة في تشكيلها . ومن ذلك قول القرطاجنّي : "والوزن هو أن تكون المقادير المُقفّاة تتساوى في أزمنة متساوية لاتّفاقها في عدد الحركات والسَّكنات والتّرتيب "([8]) .

وعند الخفاجي: "وهوالتّأليف الذي يشهد الذّوق بصحّته أوالعروض، أمّا الذّوق فلأمرٍ يرجعُ إلى الحِسّ وأمّا العروض فلأنّه حصرت فيه جميع ما علمت العرب من الأوزان "([9]) .

ومفهوم الوزن ودلالته عند الموسيقيّين ونُقّاد الشّعر والشّعراء غامضة فهو يختلف عن الإيقاع حيناً ويشتبه به أحياناً أخرى. وقد شهد النّقد الأدبي الحديث والقديم خلْط بين مفهومي الوزن والإيقاع . فالوزن عند الفارابي "زمان النّطق بالأجزاء اللفظيّة المحدودة العدد والمتساوية"  ([10]) .

ولكي  تكون الأقوال موزونة يجب أن يساوي عدد زمان القول الواحد عدد زمان الأقوال في الكلام الذي يتكوّن منه النصّ، ولكي يساوي زمن القول الواحد أزمنة الأقوال   الأخرى،لا بُدَّ أن تتساوى تلك الأقوال في عدد ما تتكوّن منه من حركات وسكونات وفي نوعها .

فالموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤُه في الطّول والقِصَر والسَّواكن والحركات فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناً .

ومن النحويين من يستعمل مفهوم الوزن في الصرف لطبيعة العربية التصريفية لكن العروضيين استعملوا هذا المفهوم أيضا لكن بشكل مختلف .فالوزن الصرفي شكل ومضمون فللصيغ دلالات كالفاعلية والمفعولية ...الخ. "أما الوزن العروضي فإنه لا يملك إلا وظيفة قياس زمن نطق النصوص ولا يرتبط بأي معنى "([11])  .        

إن طبيعة الحرف لا دلالة لها فالعبرة بكون الحرف ساكنا أو متحركا وعلى هذا الأساس يكون الوزن العروضي لأي نص لغوي هو سلسلة السواكن والمتحركات المرفقة به.

ويسند مصطفى حركات مجموعة من الوظائف للوزن باعتباره واردا في جل الثقافات، ولم يأت بصفة اعتباطية :([12])

الوظيفة الموسيقية: فالشّعر بخلاف النثر يغنى، والذي يتيح الغناء هو رتابة الوزن، ودوريته، وخضوعه لقواعد مضبوطة.

الوظيفة التعليمية : فما هو موزون يحفظ أكثر من غيره بل ولا غرابة إذن أن تأخذ العديد من المؤلفات التعليمية، مثل الألفية لابن مالك في النحو شكل منظومات.

وظيفة الحفظ: فالشّعر أكثر ديمومة من النثر وهو يبقى شكلا ومضمونا، ولا يقبل تحريفا لأن الوزن يمنع ذلك، فلا غرابة إذن أن يستدل النحاة بالشّعر فهو للأمثلة أبين، وللإعراب أحفظ.

الوظيفة الجمالية: فالوزن تركيز على شكل الرسالة، وبهذا فهو جزء هام من الوظيفة الشّعرية.

وهذه الوظيفة الأخيرة للوزن جعلت الكثير من المعاصرين يتناولون   الوزن من حيث هو نغمة موسيقيّة متكرّرة وفق نظام مُعيّن، وهذه النغمة  تجعل من الكلام شعراً، كما قد تتشكل الأوزان من انسجام الوحدات الموسيقيّة التي تتكوّن من توالي مقاطع الكلام وخضوعها إلى ترتيب مُعيّن ([13]) .

ومن سمات الوزن أيضاً التّناوب الصّحيح المُنضبط لعناصر متشابهة، أو التّكرار الدّقيق لنَفَس القصيدة.

وقبل أن نختم الحديث عن الوزن لا غرو أن نشير إلى الخلط الذي قد يقع فيه بعضهم بين مفهوم الوزن ومفهوم الإيقاع هذا الأخير يظهر بشكل عام أنه أشمل من الوزن،  "لأنّه يظهر في النّثر أيضاً ومن ذلك المقطوعات المسجوعة، والمقامات، والدّراسات التي تناولت البنى الإيقاعيّة في القرآن الكريم وجدير بالذّكر القول أنّ الوزن والإيقاع وجهان لعُملةٍ واحدة فالوزن قرين الإيقاع لأنّ نشوء الإيقاع المُنتظر مُحال عملياً دُون وُجود قالب خارجي أو نظام مسبق التشكّل يتوقّع أن تُحقّقه الكلمات"  ([14]) .

ومن هنا لا يُمكن نقد الوزن بحُجّة القوالب الجاهزة المُقيّدة أوالجامدة، ومحاولة إقصاء الوزن لحساب الإيقاع أوإقصاء الإيقاع لحساب الوزن، فكلاهما أداة نقديّة .

تعريف  الإيقــــاع :

     لفظة ( الإيقاع ) لفظة عربيّة أصيلة، لا هي بالمعرّبة ولا بالدّخيلة ففي ( لسان العرب ) جاء في مادّة ( وق ع ) : وقع بمعنى سقط، ويُقال سمعت وقْع المطر وهو شدَّة ضربه، والوقعة في الحرب صدمة بعد صدمة، وأن يقضي في كلّ يوم حاجة إلى مثل ذلك الغد (...) والوقعة، المرّة من الوقوع " السّقوط " .

والوقع والوقيع الأثر يُخالف اللون، والتّوقيع رميٌ من قريب، وإصابة المطر بعض الأرض وإخطاؤه بعضها .

والتّوقيع في الكتاب : إلحاق شيءٍ فيه بعد الفراغ منه، وقيل مُشتقٌ من التّوقيع الذي هو مخالفة الثاني الأوّل .

والتّوقيع في السَّير شبيه بالتّلفيق وهو رفعه يده إلى فوق ([15]) .

هذه المعاني تُوحي باشتراك لفظ وَقَعَ ومُشتقاته في معاني مُحدَّدَة هي الانتظام في الحُدوث، والتّكرار، ووُجود ثُنائيَّة سلب وإيجاب، والتتابع .

فوَقعُ المطر   : انتظام وتِكرار وتتابُع .

وتوقيع المطر: إصابة وإخطاء ( سلب وإيجاب ) تكرار وتتابُع وانتظام .

والوَقعُ والوقيع ( اللون ) : سلب وإيجاب وتتابُع وتِكرار .

والتَّوقيع في الكتاب : إثبات الحُضُور إثرَ غيبته كالإمضاء : تأكيد أونفي  .

 وتذكُر القواميس العربيّة الإيقاع في علم الموسيقى بمعنى إيقاع ألحان الغناء ([16]) .  والإيقاع في الموسيقى هو توقيع الألحان وإبانتها فهو يقوم على تبيين ما يُقسّم الأزمنة إلى أجزاء متقايسة  بها يتحقّق الانتظام ([17]) .

ولا يختلف مفهوم الإيقاع في معناه اللغوي العام عند العرب عن مفهومه اللغوي عند غيرهم من الأُمم رغم أنّه كان في المعاجم الغـربيّة المُعـاصرة أوضَـح، فقـد وَرَد مثـلاً في تعـريف مُصطلـح إيقـاع في موسوعة "لاروس" لآداب الفرنسيّـة" الإيقاع هو تناوب مُنتظم.

وجاء في المنجد الصغير لآداب اللغة الفرنسيّة " Petit Larousse illustré"  : الإيقاع تِكرار العناصر التي يختصّ بها البيت الشّعري في مُدد يُدرك انتظامها الحسّ ( ... ) والإيقاع في معناه الاصطلاحي العام هو تِكرار ظاهرة في مُدد مُنظّمة يُمكن إدراكُها، وقد تكون هذه الظّاهرة فيزيولوجيّة ( نبض القلب، إحساس بالزّمن، نوم ويقظة )، أو بصريّة مثل: (ضوء أو منارة، خطوط وألوان   تزويقيّة أو هندسيّة )، أو سمعيّة مثل:( أصوات أوضجيج )، أو كونيّة مثل: (نهار، ليل) أو اجتماعيّة: (عمل، راحة ) غير أنّ انتظام ما يُدرك من الظّاهرة لا يقتضي وُجوباً تساوي المُدد التي تفصل ما تكرّر ([18]) .

أما المعنى الاصطلاحي للفظ الإيقاع فيحمل عنصرين: "المشترك الدلالي الثابت، والدلالة المضافة المتغيرة وعليه فإن الإيقاع قد استعير من الحركات المنظمة للأمواج، ويجمع هنري ميشونيك الكثير من التعاريف لهذا المفهوم، وجميعها تراه في دلالته العامة، تعاقبا انتظاميا لوحدة أو وحدات، وفق وضع معين وعدد محدد، ومدة زمنية معينة "([19])  

والملاحظ أن لفظة "إيقاع" يتجاذبها ميدان الموسيقى وميدان الشّعر، ورُبّما هي مُصطلح موسيقي أكثر منه شعريّ، لما يحمله من دلالة على مُكوّن من مُكوّنات الموسيقى، بينما في الشّعر عُرفت كلمة الوزن أكثر من كلمة إيقاع وفي كثير من الأحيان يتداخل المصطلحان حتّى يكاد يكون الوزن هو الإيقاع  و العكس، ونرجع هذا التّداخل في المفهوم إلى سببين :

 01 – التقاء الموسيقى بالشّعر في مجال الغناء.

02 – طبيعـة المصطلحين المـرتبطة بالزّمـن، والدّور الأساسي للزّمن في التّوقيع الموسيقي والتّوقيع في الشّعر .

والقربى بين الغناء والشّعر حميمة قديمة، ويكاد الفنان يكونان توأمين، حتى لقد ذهب بعض العلماء إلى أن الشّعر من مواليد الغناء وذلك لأن الشعوب القديمة كالبابلين والمصريين واليونان والعبرانيين كانت تقرن شعرها بالموسيقى.([20])

ثم إن استعمال الوزن عند النّقّاد القُدامى غالب على استعمال الإيقاع . لكن هذا الأخير حاضرٌ عند بعضهم، ومنه قول ابن طباطبا :

"وللشّعر الموزون إيقاع يطربُ الفهم  لصوابه، وما يردُ عليه من حُسن تركيبه واعتدال أجزائه، فإذا اجتمع الفهم مع صحّة وزن الشّعر وصحّة المعنى وعذوبة اللفظ، فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تمَّ قبوله له واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها، وهي اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحُسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إيّاه على قدر نقصان أجزائه، ومثال ذلك الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستمعه المتفهّم لمعناه ولفظه مع طِيب ألحانه، فأمّا المُقتصر على طِيب اللحن من دون ما سواه فناقص الطّرب . وهذه حال الفهم فيما يرِدُ عليه من الشّعر الموزون مفهوماً أو مجهولاً "([21]) .

في هذا المقطع من كتاب عيار الشّعر مقابلة بين إيقاع الشّعر وإيقاع الغناء، فقوله : " إيقاع يطرب " وقوله : " الغناء المطرب " والرّبط بين الأوّل والثاني بقوله : " ومثال ذلك " . قوله هذا إشارة إلى اشتراك الموسيقى والشّعر في مصطلح الإيقاع كما سَبَقَ و أشَرنا  .

قول ابن طباطبا هذا تؤكّده أقوال أخرى لنقّاد آخرين يقولون بارتباط الشّعر  بالغناء، أوغنائيّة الشّعر، حيث يقول ابن رشيق: " الغناء حلّة الشّعر إن لم يلبَسها طُوِيَت " ([22]) .

وبعضهم جعل الطرب باعثا من بواعث الشّعر ومحرّضا على القول لا نتيجة له، فالطرب قد يفكّ عقدة لسان الشاعر لأن الشّعر قد يمتنع على قائله ولا يسلس حتى يبعثه خاطر   يطربه، أو صوت حمامة( [23]).

 ويرى الفارابي : " الموسيقى والشّعر يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف والوزن والمُناسبة بين الحركة والسّكون، فكلاهما صناعة تنطق بالأجناس الموزونة، والفرق بينهما واضح في أنّ الشّعر يختصّ بترتيب الكلام في معانيه على نظم موزون مع مراعاة قواعد النّحو واللغة، وأمّا الموسيقى فهي تختصّ بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون، وإرساله أصواتاً على نسب مؤتلفة بالكمّيّة والكيفيَّة في طرائق تتحكَّم في أسلوبها بالتّلحين  "([24]) .

ويقودنا كلام ابن طباطبا إلى أنّ صواب الإيقاع واستقامته تجمع بين حسن التّركيب، وصحَّة الوزن، وصحّة المعنى، وعذوبة اللفظ، وكأنّ تفاعل هذه العناصر مع بعضها البعض بشكل مُنسجم، وتجاوبها وتآلفها يُكسب الشّعر صواب الإيقاع .

فالاختلاف والتّنافر بين الصّورة السّمعيّة للملفوظ والصّورة الذّهنيّة له يصكّ الأذنَ فيكونُ نشازاً يُنكره الفهم (الذوق) ويمجّه السّمع .

 ويُواصل ابن طباطبا  تلمُّس بعض معالم الإيقاع العامّة في حديثٍ عن علَّة حُسن الشّعر    فيقول: "وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم،لا تحُدّ كيفيّتها كمواقع الطّعوم المُركّبة الخفيَّة التّركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييج الفائحة المُختلفة الطّيب والنّسيم، وكالنّقوش المُلوّنة التّقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المُطرب المُختلف التّأليف، وكالملامس اللذيذة الشهيَّة الحسّ، فهي تُلائمه إذا ورَدَت عليه – أعني الأشعار الحسنة للفهم – فيلّذها ويقبلها ويرتشفها كارتشاف الصّديان للبارد الزّلال، لأنّ الحكمة غذاء الرّوح، فأنجع الأغذية ألطفها ... " ([25]) .

من كلام ابن طباطبا هذا نستكشف شُمُوليَّة الإيقاع وتعدُّدَ مجالاته، ومن هنا كانت الصّعوبة في حدِّه حدّاً جامعاً مانعاً . فلا يُمكن تعريفُه تعريفاً شاملاً، إلاّ بعد تحديد السّياق الدّلالي المُستعمل   فيه، فهناك إيقاع في الرّسم  وإيقاع  في النَّحت، وإيقاع في الظّواهر الطّبيعيّة ... إلخ .

هذه النظرة تحمل في طيّاتها ملامح النّظام الإيقاعي الذي يقوم على التلاؤم والتناسب والانسجام ولولاها ما تحقق هذا التلاحم، بين الأجزاء، فإذا ما خرج جزء عن موضعه الطبيعي، اختل النظام والنسق، واضطرب  المعنى وفسد([26]).  

وفي كلام ابن طباطبا  تصريحٌ واضح بشموليّة وعموميّة الإيقاع فقد أشار إلى إيقاع الطّعوم المُركّبة الخفيفة التّركيب وإيقاع الأراييج الفائحة  وإيقاع النّقوش المُختلفة التّقاسيم والألوان، وإيقاع الملامس .

غير أنّ المجال المعرفي الذي اختصَّ به الإيقاع وبرَزَ فيه بشكل دقيق هو الموسيقى والشّعر وهذا ما لم يفُت ابن طباطبا حين استدركَ بقوله : " وكالإيقاع المُطرب المُختلف التآليف " .

إنّ الشّعر موسيقى قبل كلّ شيء وإنّ العنصر الموسيقي يفوق في الأهمّيَّة المعاني والعواطف والصّور الشّعريّة ذاتها، باعتبار أنّ الموسيقى هي أقوى أداة للإيحاء، والشّعر إيحاء أكثر منه تعبيراً لغوياً صريحاً واضحاً  ([27]) .

  إن مناقشة هذه الآراء لبعض الدّارسين للإيقاع تُكسبه مفهوماً واسعاً فضفاضاً، وهذا ما جعل الإيقاع عصيّاً عن التّعريف، فلم يُجمع الباحثون على تعريف جامعٍ مانعٍ، بل اختلف حدّه، وتعريفه باختلاف رؤية ونظرة صاحب التّعريف، كلٌّ حسب تخصّصه ومنهجه .

  كما أن خاصيَّة الكمّ والتّناسب في الوزن الشّعري ما هي إلاّ قطرة من بحرٍ من تناسب الأصوات كما هو  معروف في كتب الموسيقى  ([28])

هذا عن الإيقاع  بشكلٍ عام، أما الإيقاع في الخطاب الشّعري، فلا يقتصر على  الصَّوت، إنَّه النّظام الذي يتوالى ويتناوب بموجبه مؤثّر صوتي أو  شكلي أو جو  ما وهمي، فكري، سحري، روحي . وهو كذلك صيغة للعلاقات ( التّناغم، التّعارض، التّوازي، التّداخل ) فهو إذن  نظام أمواج صوتيَّة ومعنويَّة وشكليَّة، ذلك أنَّ للصّورة إيقاعاً  ([29]) .

       كما يمكن القول " أن الإيقاع  يتمثّل في مظاهر بنائيَّة ودلاليَّة وتركيبيَّة ... " ([30]) .

       ويُشكلّ الإيقاع كلّ عناصر الفنّ الشّعري من أسلوب تركيبي وخيالي وتصويري وصوتي ودلالي إذ تقوم بين هذه الجوانب علاقات متواشجة، تربطُ الدَّالَ بالمَدلول، والشَّكلَ  بالمَضمُون، وِفقَ نِظامٍ إيقاعيٍّ خاصّ([31]) . ويذهب شكري عياد إلى أن "الإيقاع حركة مُنتظمة والتئام أجزاء الحركة في مجموعات مُتساوية ومُتشابهة شرطٌ لهذا النّظام، وتميّز بعض الأجزاء عن بعض في كُلّ مجموعة شرط آخر، إذ إنَّ سلسلة الحركات أوالأصوات إذا انعدَمَت منها هذه القيم المُتميّزة استحالت إلى مُجرَّد تردُّد أوذبذبة" ([32]) .

ويرى بعض الدَّارسين أنَّ مفهوم الإيقاع يرتبط أساساً بالزّمن،"فالإيقاع هو التّناوب الزّمني المُنتظم للظّواهر المُركّبة وهو الخاصيَّة المُميّزة للقول الشّعري، والمبدأ المُنتظم للفقه"  ([33]) .

  كما يُمثّل الإيقاع "تردُّد المقادير في نِسَب زمنيَّة محفوظة وثابتة " ([34]) .

من خلال مُلاحظة هذا الكمّ من التَّعريفات أو مُحاولة حدِّ الإيقاع نصِلُ إلى أنَّ هذه الزّئبقيَّة في المُصطلح تُحيطُهُ بكثير من اللبس، لذا فتتبّع تعريفات تجمعُها بعض القواسم المُشتركة هي فقط ما يُوصلنا لبناء تصوُّر علمي مُشترك لهذا المُصطَلَح، والابتعاد به عن الإقصاء والإسقاط الذي قد يلحقه من جرَّاء هذه الزِّئبقيَّة وهذا المفهوم الواسع الفضفاض .

ويرى بعض الدَّارسين أنّ الإيقاع مُرتبطٌ بالصَّوت على اعتبار أنَّ المُصطلح مُنحدر من الموسيقى التي تقوم أساساً على البُعد الصَّوتي " وتناسُب الأصوات والأزمنة، فاللحن يتكوَّن من درجات إيقاعيَّة لكلّ واحدٍ منها زمنٌ مُعيَّن، وهذه الأزمنة تضبِطُ الأصواتَ وأجزاءَها، والسّكوت الذي يُمكن أن يتخلَّلَها " ([35]) .

لكن الدراسات النقدية الحديثة لا تخلُ من لفظة الإيقاع بوصفه مصطلحا يرتبط بالشّعر، وقد جاءت كثير الدراسات الشّعرية تحمل في عناوينها لفظة" إيقاع " ويعود هذا إلى: ([36] )

التثاقف الحضاري بين النقد العربي والنقد الأجنبي .

تطوير البحث في الشّعرية العربية وخاصة ما يرتبط بالإيقاع .

المفاهيم النظرية الجديدة للحركة الشّعرية الحديثة حول بناء القصيدة خصوصا ما تعلق بالمستوى الإيقاعي.

وتوفيقا بين القديم والحديث وبين الموسيقى والشعر وبين الوزن والإيقاع نختم بما جاء في المقدمة : " تبيَّنَ في علم المُوسيقى أنَّ الأصوات تتناسبُ ليكُون صوتٌ نصفَ صوتٍ، ورُبعَ   آخر، وخُمسَ آخر، وجُزءاً من أحد عشر من آخر، واختلاف هذه النِّسَب عند تأديتها إلى السَّمع يُخرجها عن البساطة إلى التّركيب، منها ملذوذاً عند السَّمع بل تراكيب خاصَّة هي التي حصَرَهَا    علم الموسيقى" ([37]) .  



[1] - كتاب العين للخليل، لسان العرب لابن منظور، مادة ( وزن ) .

[2] - ابن رشيق، العمدة ، 134 .

[3] - الروبي ألفت كمال، نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة والنشر،بيروت،1983،231

[4] - ابن رشيق، العمدة، 20 .

[5] - ن م، 120 .

[6] - ن م ، 134 .

[7] -  ن م ، 135 .

[8] - القرطاجني حازم، منهاج البُلغاء وسراج الأدباء، دار الفكر الإسلامي، بيروت 1986، 263 .

[9] - الخفاجي ابن سنان، سرّ الفصاحة، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، عمان، 2006، 466 .

[10] - الفارابي، الموسيقى الكبير،، 20،21 .

[11] - حركات مصطفى، نظرية الإيقاع،دار الآفاق للشر والتوزيع، الجزائر ، 100

[12] -    ن م ، 98

[13] - يونس علي، نظرة جديدة في موسيقى الشّعر العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب  1993، 40 .

[14] - أبوديب كمال، في البنية الإيقاعية للشعر العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1974 ، 322 

[15] - ابن منظور، لسان العرب، مادة ( و ق ع ) .

[16] - ن م .

[17] - عبيد علي، نظام الإيقاع في الشعر العربي ، 47 .

[18] - Petit Larousse illustré 1988 librairie Larousse Canada

[19] - إسماعيل يوسف، بنية الإيقاع في الخطاب الشعري، منشورات وزارة الثقافة جمهورية سوريا، الطبعة الأولى، 2004،08

[20] - الجوزومصطفى،  نظريات الشعر عند العرب، الطبعة الثانية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1988، 62

[21] - ابن طباطبا، عيار الشعر ، 53 .

[22] - ابن رشيق، العمدة ، 39 .

[23] - الجوزومصطفى، نظريات الشعر عند العرب ،70

[24] - الفارابي أبونصر، الموسيقى الكبير، ج 1 ، 16 - 17 .

[25] - ابن طباطبا، عيار الشعر، 54

[26] ابتسام أحمد حمدان، الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي،57

[27] - بشير خلدون،  الحركة النّقديّة أيام ابن رشيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981 ، 52 

[28] - ابن خلدون، المقدّمة ، 440 .

[29] - سعيد خالدة : حركيَّة الإبداع ، الطبعة الثانية، دار العودة للنشر، بيروت، 1982 ، 111 .

[30] - شكري محمد قاسم مقداد، البنية الإيقاعية في شعر الجواهري، 19 .

[31] - إبتسام أحمد حمدان،الأسس الجماليّة للإيقاع البلاغي، الطبعة الأولى، دار القلم العربي، حلب، سوريا،1997، 10  .

[32] - عياد شكري : موسيقى الشّعر-مشروع دراسة علمية -، الطبعة الثانية، دار المعرفة، القاهرة، 1978 ، 57 .

[33] - فضل صلاح، نظريّة البنائيّة في النّقد الأدبي،الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة 1998 ، 71 .

[34] - أحمد كشك، الزّحاف والعلّة، رؤية في التّجريد والإيقاع، دار غريب، القاهرة، 2005 ، 151 .

[35] -  صالح مهدي، الموسيقى العربية تاريخها وأدبها، الطبعة الثانية، الدار التونسية للنشر، تونس، 1986 ، 111 .

[36] - إسماعيل يوسف، بنية الإيقاع في الخطاب الشعري،17

[37] - ابن خلدون، المقدّمة ، 440 – 441 .

ليست هناك تعليقات