التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

الخلفية الفلسفية للتوجه الوظيفي في الدرس اللغوي

 
الخلفية الفلسفية للتوجه الوظيفي: وأما الوظيفة فهي من الأطروحات الكبرى في حقلَي فلسفة اللغة، واللسانيات الحديثة وقد أشرنا في الفصل الأول من هذا البحث إلى الوظيفية البنوية والوظيفية التوليدية، إذ (( يمكن للمشتغل بابستيمولوجيا الفكر اللساني وبتاريخ هذا الفكر واتجاهاته أن يميز بين تيارين أساسيين اثنين: تيار صوري يقف في مقاربته للغات الطبيعية عند بنيتها لا يكاد يتعداها، وتيار وظيفي يحاول وصف بنية اللغات الطبيعية بربطها بما تؤديه هذه اللغات من وظائف داخل المجتمعات البشرية)) . 
 من هنا رأينا أن نبحث في الأصول الفلسفية للوظيفية، فأوليات النظرية الأداتية أو الوظيفية للغة ترجع إلى الفلسفة، وبالضبط إلى فلسفة اللغة حيث تعد هذه النظرية بمثابة بديل معرفي عن البنوية التي لا تتجاوز الوصف، وكذا التوليدية التحويلية التي تسعى إلى بناء نحو كلي يمكنه أن يحتوي الأنحاء الخاصة للغات المختلفة، لكن النظرية الأداتية أو الوظيفية ترى أن اللغة تلعب دورا أساسيا في ظهور المعرفة الموضوعية، إذ ((هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، لا لأن لحيوان لا يملك لغة، فهناك لغة الحيوانات كلغة النحل على سبيل المثال، لكن لأن لغة الإنسان تملك وظائف تتجاوز وظائف لغة الحيوان)) .
 ويميز بوهلر بين وظائف اللغة السفلية "الوظيفة التعبيرية"، و"الوظيفة التواصلية"، وبين وظائفها العلوية كالوظيفة الوصفية (( أي القدرة على وصف الحقائق وصياغتها في عبارات قابلة للحكم، ولها وظيفة أخرى هي المقارنة والتفسير والاستدلال ويسميها الوظيفة الحجاجية وهذه الوظيفة الرابعة هي التي تقوم بعملية ربط اللغة بالخطاب بوصفه مجموع القضايا البرهانية)) . (( إن هذه النظرية الوظيفية التي قال بها "بوهلر" عام 1934، وطبقها "بوبر" عام 1972، تتميز أيضا بقيم ثنائية أساسية، حيث تتمتع الوظيفة الحجاجية بقيمة الملائمة أو عدم الملائمة، والوظيفة الوصفية بقيمة الصدق أو الكذب، والوظيفة الإشارية بقيمة الفعالية أو عدم الفعالية، والوظيفة التعبيرية بقيمة التبليغ أو عدم التبليغ)) . والحديث عن اللغة في الفلسفة يقودنا إلى الحديث عن نوعين من اللغة: 
 - اللغة المثالية: وهي لغة رمزية تتجنب عيوب اللغة العادية، وتُعنى بدراسة التركيب الصحيح لمفردات اللغة لبناء جمل سليمة البناء ووضع قواعد هذا التركيب، وهذه اللغة حاول بعض الفلاسفة إقامتها في أطوار مبكرة من حياتهم الفكرية وهم: "ليبينز" في القرن الثامن عشر، و"فريجة" و "راسل" و"فيتغنشتاين" في القرن العشرين وتمخضت هذه الجهود عن نظرية الذرية المنطقية logical atomism. 
 - اللغة العادية: ظل هؤلاء الفلاسفة قرابة العشرين عاما من سنة 1912 يحاولون الوصول إلى اللغة المثالية لكنهم تراجعوا عن ذلك عندما تبين لهم استحالة ذلك وعادوا إلى فلسفة اللغة العادية، وهي اللغة التي يتكلمها الناس في حياتهم اليومية، ويتكلمها الفلاسفة والعلماء في غير أوقات بحثهم. تحول إذن الفلاسفة عن اللغة المثالية وعن النظرية الذرية المنطقية، وظهر اتجاه فلسفي تحليلي تمثل في مدرسة "أكسفورد" ، يدعو هذا التوجه إلى تحليل فلسفي يقوم على استخدام اللغة العادية. من هنا يمكنك أن تقول: ((إن تحول فتغنشتاين من اللغة الاصطناعية إلى اللغة العادية والانتقال من الاهتمام الكبير بالجانب التركيبي والدلالي للقضايا إلى الاهتمام بالوظائف الفعلية للغة، وكيفية استعمالها يعد من دون أدنى شك علامة فارقة في الخط العام للفلسفة التحليلية عموما وفي فلسفة فيتغنشتاين على وجه الخصوص)) . 
 هذه الرؤية الفلسفية لوظائف اللغة وإن تعددت مشاربها فإنها جاءت كلها ناقمة على النحو الشكلي، فهاهو لودفيك ينتقد النحو الصوري بقوله: (( لا يقول النحو شيئا عن الكيفية التي يجب أن تنبني بها اللغة حتى تحقق الغرض منها وحتى تؤثر في الإنسان بطريقة كذا أو كذا، هو يصف استعمال العلامات فقط دون أن يفسرها بأية طريقة)) . 
 إن هذا التوجه نحو الاستعمال اللغوي في فلسفة لودفيك فتغنشتاين هزّ أركان النحو المعياري القائم على التخطيء والتصويب والوصف الصوري وفقا لقواعد تركيبية ليطرح بدلا منه نموذجا يستند إلى الشروط الفعلية للاستعمال التي تؤدي إلى تحديد الدلالة أو المعنى، ((أن تفهم مدلول لفظة يعني أن تعرف الإمكانات النحوية لاستعمالها)) . فالنظرة الصورية الشكلية للغة ظلت تتعامل مع اللغة تجريديا، إذ ليست اللغة في نظرها سوى جمل تكونت من خلال توالي ألفاظ معينة بكيفية معينة، واللساني أو اللغوي مطالب بالكشف عن القواعد التي حكمت آلية أو "ميكانيكية" إنتاج هذه البنية المكونة من سلاسل صوتية دون السؤال عن الغائية من تكوين هذه البنية المجردة.
 ولما كان النحو مناط البحث في كل تراث لغوي بشري، أو بالأحرى محور البحث اللغوي في كل اللغات، صيغ له العديد من النظريات، ودارت حوله جل المناقشات، وانصبت عليه كثير من النقودات، (( فالنحو ما هو إلا نظام من القواعد والمقولات والحدود التي تختص بنظام لغة ما، وذلك النظام اللغوي مجرد نسبيا ويتحقق في إطار متحدث مثالي)) . 
 لا شك أن كلا الاتجاهين - البنوي أو الوظيفي- غايتهما واحدة وهي الكشف عن خبايا الملكة اللسانية البشرية، غير أن الخلاف بين الوجهتين ينحصر في المنطلق أهو الجملة كبنية مجردة، أم الجملة وارتباطاتها المتعددة بما قبلها وما بعدها وما يحيط بها من المواقف الخارجية، ومن هنا وصفت معايير النحو الصوري بأنها غير كافية لحصر المعاني الممكنة للكلام، (( إن التأرجح في النحو بين المعايير والعوارض يوهم بوجود العوارض فقط دون المعايير فالعوارض تعرفنا الظواهر بالتجربة، والمعايير تقيسها وتحددها، ولكن ما هو سبيلنا إلى المعايير والعوارض في هذا التأرجح والإبهام إذا كان مدلول اللفظة مقترنا باستعمالها في الجملة أو القضية التي تحددها قواعد نحو هذا الاستعمال؟ يصبح من الواجب إذا إما أن نحدد النحو أو أن نعطي قائمة بكل الاستعمالات الممكنة أو غير الممكنة حتى نتبين حدود المعنى)) .
 نصل هنا إلى القول بأن تخطيء النحو الصوري والعزوف عن نتائجه ليس هو الغاية من النقد الموجه إليه، وإنما الغاية من نقد النحو الصوري الشكلي الحصول على إجابة شافية للسؤال الآتي:
 - هل الجملة كبنية مجردة ومعزولة كافية لاستكناه خصائص ظاهرة لغوية معينة، واستنباط المعايير التي تضبط كلام الناطقين باللسان الواحد؟ هذا التساؤل يجرنا لتساؤل آخر مفاده: 
ماذا بعد الجملة إلا النص؟ 
((وها هنا تطرح قضية أساسية تتعلق بشرعية وجود نحو النصوص Grammaire de texte إلى جانب نحو الجملة Grammaire de phrase )) .
 ولما كانت الحال هذه، وجدنا أنفسنا أمام نمطين من اللسانيات: لسانيات جملة ولسانيات نص، حيث (( سلكت أغلب النظريات اللسانية المنحى الأول فاتخذت لها موضوعا الجملة واقتصرت عليها،...وتُرك ما يتعدى الجملة إلى مجالات دراسية منها ما هو لساني "لسانيات النص" أو "نحو النص" ومنها ما هو غير لساني وإن كان يستمد بعض المفاهيم وبعض الأدوات من اللسانيات كتحليل الخطاب والسيميائيات والشعرية و غير ذلك)) . وهذا الوضع المبني على تمييز تقابلي بين نحو الجملة ونحو النص غير مبرر، ومن الواجب رفعه بما تتيحه نظرية النحو الوظيفي من سبل .

ليست هناك تعليقات