أثر النحاة في نشأة البلاغة العربية:
بدأت الدراسات اللغوية
العربية مجتمعة غير منفصلة، فكان على اللغوي أن يكون باحثا في المفردات والتراكيب
من حيث شروحها وأصولها واشتقاقاتها وإعرابها وأسرار أساليبها وتعابيرها، وربما
تكلم في اللغة الفقهاء والمتكلمون، فكانت العلوم يخدم بعضها بعضا ويصل بعضها البعض
الآخر.
أما التخصص فلم يكن إلا
في القرون المتأخرة حين اختص كل فريق بمادة معينة وموضوع بعينه، فكان النحو أول ما
انفصل من علوم اللغة حيث اهتم النحاة بالإعراب والتصريف والبحث في الأسماء
والأفعال والحروف وتبويبها من حيث خصائصها التعبيرية ووظائفها النحوية وكذا تخريج
المسائل النحوية.
وبينما كان النحاة
منشغلين بالدرس النحوي كانت كتاباتهم لا تخل من حديثهم عن حسن الكلام وقبحه،
وتلاؤم الحروف وتنافرها، وهذه هي البذرة الأولى التي نشأت منها شجرة البلاغة
العربية، حيث بدأت محاولات الكشف عما يجعل الألفاظ والعبارات أكثر نجاحا في تأدية
المعنى المقصود، والمفاضلة بين النصوص والأشعار الأكثر جمالية والأقوى تأثيرا في
النفوس.
ومن ذلك قول الأصمعي:[1] ومن ألفاظ العرب ألفاظ
تتنافر وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه،
فمن ذلك قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر.
وقول خلف الأحمر: (( إذا
كان الشعر مستكرها وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض كان بينها
من التنافر ما بين أولاد العلّات، وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها
مرضيا موافقا كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة))[2].
وفي باب استعمال الفعل
في اللفظ لا في المعنى لاتساعهم في الكلام والإيجاز والاختصار يقول سيبويه: ((
ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى جده:
واسأل القرية التي كنا
فيها والعير التي أقبلنا فيها.
إنما يريد أهل القرية
فاختصر وعمل الفعل في القرية كما كان عاملا في الأهل))[3].
وفي الكامل يقول المبرد:
(( من كلام العرب الاختصار المفهم، والإطناب المفخّم، وقد يقع الإيماء إلى الشيء
فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه، كما قيل لمحة دالة، وقد يضطر الشاعر المفلق،
والخطيب المَصقع، والكاتب البليغ، فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق، واللفظ
المستكره، فإن انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه، وإن شاء
قائل أن يقول: بل الكلام القبيح في الكلام الحسن أظهر، ومجاورته له أشهر، كان ذلك
له، ولكن يغتفر السيئ للحسن والبعيد للقريب))[4].
يذكر المبرد هنا الشاعر
والخطيب والكاتب وفي هذا إشارة إلى بلاغة الكلام شعرا أو نثرا، ويذكر أيضا اللفظ
والمعنى والقبح والحسن وكلها من أبواب البلاغة وهو النحوي الكبير صاحب المقتضب.
لكن ما يجمع عليه
الباحثون أن البلاغة العربية ترعرعت في أحضان علم الكلام على اعتبار أن الجاحظ هو
المؤسس الأول لعلم البلاغة، وتعد قضية اللفظ والمعنى أكثر القضايا التي ساهمت في
تطور علم البلاغة، كما كان للبحث في الإعجاز القرآني النصيب الأوفر من البحث
البلاغي، أما قضية الحقيقة والمجاز فهي المحور الذي دارت حوله أغلب بحوث القدماء
عندما عرضوا لدراسة المعنى اللغوي التركيبي.
وأما مؤسس البلاغة
العربية فقد ((ألمّ في كتاباته بالصور البيانية المختلفة، وبكثير من فنون البديع،
غير أنه لم يسُق ذلك في تعريفات وتحديدات فقد كان مشغولا بإيراد النماذج البلاغية
وقلما عني بتوضيح دلالة المثال على القاعدة البلاغية التي يقررها))[5].
وبعد الجاحظ جاء ابن
قتيبة الذي لم تتطور معه البلاغة كثيرا ولكنها خطت خطوات واسعة نحو التبويب
والترتيب، حيث وضع ابن قتيبة الألوان البلاغية تحت أبواب مفصلة وجمع شواهدها وميز
بينها، ((فاللغويون والنحاة وفي مقدمتهم ابن قتيبة والمبرد وثعلب ينشطون –على ضوء
سابقيهم- في تصنيف كتب يفسحون فيها للملاحظات البلاغية، غير أنهم لم يضيفوا شيئا
مهما))[6].
وفي البلاغة أقوال كثيرة
منها ما يهدف لحدها ومنها ما يفرق بينها وبين الفصاحة ومنها ما يحاول تعريفها
فيصفها ومما قيل فيها:[7]
*
البلاغة لمحة دالة: وهذا وصف من صفاتها،
فأما أن يكون حاصرا لها وحدّا يحيط بها فليس ذلك بممكن لدخول الإشارة من غير كلام
يتلفظ به تحت هذا الحد.
*
البلاغة معرفة الفصل من
الوصل[8]:
قد يكون الإنسان عارفا بالفصل والوصل وليس بينه وبين
البلاغة سبب ولا نسب.
*
البلاغة أن تصيب فلا
تخطئ وتسرع فلا تبطيء: وهذا يصلح لكل الصنائع وليس مقصورا على صناعة البلاغة
وحدها.
ويضيف ابن سنان على تعليقاته هذه حول ما قيل في البلاغة
تمييزه بين الفصاحة والبلاغة فيقول: ((والفرق بين الفصاحة والبلاغة أن الفصاحة
مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني))[9].
ومن التعريفات الواردة
في علم البلاغة:
•
تعريف المبرد: أورد المبرد في الكامل
قوله: ((قيل للعتابي: ما أقرب البلاغة؟ قال: ألا يؤتى السامع من سوء إفهام القائل،
ولا يؤتى القائل من سوء فهم السامع))[10]،
فحق البلاغة إحاطة القول بالمعنى، واختيار الكلام وحسن النظم، حتى تكون الكلمة
مقاربة أختها، ومعاضدة شكلها، وأن يقرب بها البعيد ويحذف منها الفضول.
•
قول الجرجاني في البلاغة
والفصاحة: ((ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في
معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير
المراد بها فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء، والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على
مكان الخبئ ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، ...ووجدت المعوّل على أن هاهنا
نظما وترتيبا، وتأليفا وتركيبا، وصياغة وتصويرا، ونسجا وتحبيرا))[11].
وفي هذا إشارة إلى أن الفصل في البلاغة والفصاحة ظل
بعيدا عن العلماء للقطع فيه بحدود وتعريفات جامعة مانعة، وأن الحديث عنهما لم
يتجاوز الإشارة والرمز والإيماء.
وجاء في البيان
والتبيين للجاحظ:[12]
قيل للفارسي: ما
البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل.
وقيل لليوناني: ما
البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.
وقيل للرومي: ما
البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة.
ويرى الجرجاني ((في
تحقيق القول على الفصاحة، والبلاغة، والبيان، والبراعة، وكل ماشاكل ذلك مما يعبر
به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا، وأخبروا السامعين عن
الأغراض والمقاصد، وراموا أن يعلموهم عما في نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر
قلوبهم))[13].
وأول البلاغة اجتماع آلة
البلاغة، ((وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير
اللفظ))[14].
ثم يجمل القول في
الفصاحة والبلاغة والبراعة فيقول: ((أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته،
وتختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه وأتم له، وأحرى أن يكسبه نبلا، ويظهر
فيه مزية))[15].
هكذا كانت البلاغة من
الجاحظ إلى عبد القاهر الجرجاني تركز على الذوق والملكة بعيدا عن القيود والضوابط،
وتبحث في أصول الأساليب البيانية دون أن تضع قواعد وقوانين لمباحث البلاغة، ولما
انتهى أمر البلاغة إلى قدامة بن جعفر والسكاكي أخذت البلاغة صبغة العلم المضبوط،
((فالبلاغة السكاكية صناعة كصناعة النحو، بل إن علم المعاني وهو فرع من هذه
البلاغة يعد من النحو، ولكنه ليس نحو الجملة المفردة، بل نحو النص المتصل وقد أبان
عبد القاهر عن ذلك قبل أن تصبح البلاغة صناعة))[16].
[1]) الجاحظ أبو عثمان
عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة،
الطبعة السابعة، 1998، ج01، ص65.
[2]) المرجع السابق، ص
66/67.
[3]) سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان، الكتاب،تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، الطبعة
الثالثة، القاهرة، 1988، ج01، ص212.
[4]) المبرد أبو العباس
محمد بن يزيد، الكامل، تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة
الثالثة، 1997، ص40.
[5]) ضيف شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف،
القاهرة، الطبعة السابعة، 1995، ص 56.
[6]) ضيف شوقي، البلاغة
تطور وتاريخ، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السابعة، 1995، ص 369.
[7]) الخفاجي أبو محمد بن سنان، سر الفصاحة، دار
الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1982، ص 59.
[8] ) ضيف شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، القاهرة،
الطبعة السابعة، 1995، ص 369.
[9]) الخفاجي أبو محمد بن سنان، سر الفصاحة، دار
الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1982، ص 59.
[10]) المبرد أبو العباس
محمد بن اليزيد، الكامل، تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية،
1992، ص 1502.
[11]) الجرجاني أبو بكر عبد
القاهر، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، دون ط،
1984، ص 34.
[12] ) الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمد
هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة السابعة، 1998، ص 88.
[13]) الجرجاني أبو بكر عبد القاهر، دلائل الإعجاز،
تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، دون ط، 1984، ص 43.
[14] ) الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام محمد
هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة السابعة، 1998، ص 92.
[15]) الجرجاني أبو بكر عبد القاهر، دلائل الإعجاز،
تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، دون ط، 1984، ص 43.
[16]) حسان تمام، الأصول
دراسة ابستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، عالم الكتب، القاهرة، 2000، دون ط، ص
283.
ليست هناك تعليقات