التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

علـم المعــاني في العربية:

ولما كان المعنى هو الغاية الأولى والمحور الأساس الذي تدور في فلكه جل الدراسات اللغوية فلا غرابة أن يحوز النصيب الأوفر من اهتمام اللغويين العرب في وقت مبكر ((مثل تسجيل معاني الغريب في القرآن الكريم، ومثل الحديث عن مجاز القرآن، ومثل التأليف في الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، ومثل إنتاج المعاجم الموضوعية ومعاجم الألفاظ))[1].
ويرجع ظهور علم المعاني في العربية إلى الركود الفكري والنمط التقليدي الذي ساد الدرس النحوي الذي استنفذ أغراضه واستهلك نفسه واستهلكه أصحابه درسا وتدريسا بعد أن أنضجه أسلافنا حتى احترق.
ولعل البحث في قضية اللفظ والمعنى هو بمثابة الإرهاصات الأولى لقيام علم المعاني لما تكتسيه علاقة اللفظ بالمعنى من أهمية في التراث اللغوي العربي، فالتعالق والتأثير المتبادل بين اللفظ والمعنى طَرحا في مجال البحث اللغوي عامة والبحث النحوي خاصة الكثير من التساؤلات وانقسم الباحثون في اللفظ والمعنى بين منتصر للفظ ومنتصر للمعنى.
ومن المعلوم أن الدراسة النحوية تبدأ بالكلمة وتنتهي إلى الجملة، بمعنى أن النحوي يهتم بتركيب الجملة ولا يتعداه إلى ما بعده، لكن ما لبثت هذه النظرة أن أصبحت قاصرة عن توصيف الغاية من دراسة اللغة، فهي لا تخرج عن كونها عمليات عقلية لاستنباط ضوابط تحكم ترتيب الكلمات في الجملة ضمن مدونة اللغة المحدودة، وهذا النشاط أقرب ما يكون في جانبه الإجرائي إلى البنوية فالانتقال من المبنى إلى المعنى هو ما ميز الدرس النحوي.
وعن النحو العربي يقول السكاكي: (( اعلم أن علم النحو هو أن تنحو معرفة كيفية التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقا بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب، وقوانين مبنية عليها، ليحترز بها عن الخطإ في التركيب من حيث تلك الكيفية، وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض، ورعاية ما يكون من الهيئات إذ ذاك، وبالكلمة نوعيها المفردة وما هي في حكمها))[2].
وفي كلام السكاكي هذا إشارة إلى أن النحاة العرب كانوا يعتنون في دراستهم النحوية بالتركيب أثناء تحليلهم للجملة، ويراعون مقامات الجملة برعايتهم لما يكون من الهيئات.
وفي قول الجرجاني عمن زهد في النحو واحتقره أيضا إشارة كذلك إلى اهتمام النحو بالأغراض، ((... إذ كان قد عُلم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها))[3].
ويمكن أن نرد هذا إلى ميزة  خُصّ بها الدرس النحوي العربي وهي أنه تجاذبته كثير من مجالات البحث وفروع العلم كالفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه والتفسير، وهذا ما جعل الدرس النحوي العربي قريبا جدا من دراسة المعاني، ((بل من النحاة من كان على صلة وثيقة بمعاني الكلام، وبأغراض الأسلوب ومقاصده، وبطرق وأحوال الاستعمال اللغوي، وبطبيعة العلاقة بين المتكلمين والمخاطَبين وبملابسات الخطاب ودلالاته وأغراضه، ولم يكن نحوهم كله نحوا شكليا خالصا))[4].
إنّ المتتبع لمسار الدراسات اللغوية العربية يلحظ تقاطع علم النحو وعلم المعاني واشتراكهما في دراسة الجملة، فالنحو يكتفي بالوصول إلى العلاقات التي تربط الكلمات باعتبارها وحدات بناء الجملة، ((فالألفاظ لا تفيد حتى تؤلَّف ضربا خاصا من التأليف ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب))[5]، بينما علم المعاني يتجاوز الجملة الواحدة ليربطها بما قبلها وما بعدها من الجمل، وقد نتج هذا التوجه في التراث العربي من ربط المقال بالمقام، فالباحث يسعى إلى تشخيص حيثيات القول وربطها بالاستعمال اللغوي، فيكون في علم المعاني الانتقال من المعنى إلى المبنى وبعكس هذا ينتقل النحو من المبنى إلى المعنى.
وعبد القاهر الجرجاني الذي تنسب إليه نظرية النظم استبدل المصطلح الشائع "اللفظ والمعنى" بـمصطلح "النظم"، وأراد أن يجعل دراسة مباحث البلاغة إلى جانب معاني النحو فقال: ((اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخلّ بشيء منها))[6].
نفهم من كلام الجرجاني أن علم المعاني لم يأت ليتعارض مع علم النحو، ولا ليطرح نفسه كبديل عنه، وإنما ليعمل وفق قوانينه وأصوله فلا يزيغ عنها، وفي هذا الكلام إشارة إلى أن النحو العربي ليس شكليا صوريا –على الأقل في بعض جوانبه-كما يتوهم البعض، فعلم المعاني ليس ثورة على علم النحو، وإنما جاء ليبدأ حيث انتهى علم النحو، (( مثال ذلك أن النحاة حدّدوا الرتبة في الكلام، وجعلوها محفوظة وغير محفوظة، وقد ارتضى علماء المعاني هذا التقسيم وتجنبوا الكلام في الرتبة المحفوظة لأنها ليست مظنة اختلاف الأساليب بسبب حفظها وثبات وضعها، وعمدوا إلى الرتبة غير المحفوظة فمنحوها دراسة أسلوبية مهمة تحت عنوان التقديم والتأخير، ومعنى هذا أن التقديم والتأخير البلاغي وثيق الصلة بقرينة الرتبة في النحو، ولكنه لا يمس الرتبة المحفوظة لأنها محفوظة لا تختلف عليها الأساليب))[7].
فعمل النحاة أن يحفظوا الكلام من الفساد، فإن أخر المتكلم حيث أوجبوا التقديم أو قدم حيث أوجبوا التأخير فقد لحن، لكن للمتكلم حرية التقديم والتأخير حيث أجاز النحاة ذلك، لكنّ هذه الحرية ماتلبث أن تقيد بعلم المعاني إذ على المتكلم أن لا يخرج عن أغراض الكلام وحال المخاطَب أو بعبارة أدق وأوفى "على المتكلم أن يراعي مقتضى الحال".
فقولنا مثلا:
1)   أعطيت خالدا كتابا.
2)   ليس كقولنا: خالدا أعطيت كتابا.
3)   وليس كقولنا : خالدا كتابا أعطيت.
4)   وليس كقولنا: كتابا أعطيت خالدا.
-     فالأولى: تناسب خالي الذهن.
-     والثانية: تناسب من يعلم أني أعطيت كتابا ولا يعلم من أعطيته، أو يظن أني أعطيته غير خالد.
-     والثالثة: تناسب من يعلم أني أعطيت شخصا ما شيئا ما، ولا يعلم لمن أعطيت ولا ما أعطيت.
-     والرابعة: تناسب من يعلم أني أعطيت خالدا شيئا ولا يعلم ما أعطيته، أو يظن أني أعطيته قلما مثلا.
في هذا المثال يتوقف البناء اللغوي للجملة على فهمي لحال المخاطب، ومدى إدراكي للمقام الذي أنا بصصد التكلم فيه، فيكون اختاري لبنية الكلام أو الجملة المتلفظ بها حسب المعنى الذي أود تبليغه للمخاطَب، فأكون انتقلت من المبنى إلى المعنى، وهنا تقاس درجة فصاحتي وبلاغتي حسب مدى قدرتي على اختيار المبنى المناسب للمعنى المناسب (ملكتي وقدرتي على النظم).
وفي هذا الباب يضيف الجرجاني تأكيده أن ليس النظم سوى توخي معاني النحو فيقول: (( فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا، وخطؤه إن كان خطأ، إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه، واستعمل في غير ما ينبغي له، فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد، وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه))[8].
والسؤال الوجيه الذي يطرح نفسه :
عن أي نحو يتكلم الجرجاني؟
ليس في العربية غير نحو واحد هو ما بينّا نشأته ومراحل تطوره في الصفحات السابقة، وهو ذلك النحو الذي يُعنى بالنظر في أواخر الكلم وما يخصها من بناء وإعراب، وهو تلك الدراسة التي اتخذت من اللّغة العربية موضوعا لها فانبرى أصحابها للكشف عن القواعد الراسخة في أذهان الناطقين بها، ورغم أن الدافع كان دينيا غير أن النحاة استطاعوا أن يضفوا على دراستهم الصبغة العلمية لأن منهجهم القائم على الاستنباط والاستقراء جعل بحثهم اللغوي موضوعيا إلى حد بعيد.
نعم، هذا هو النحو الذي قصده الجرجاني في الفقرة السابقة، فالجرجاني نفسه يثني على النحو العربي بقوله: (( وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورُجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه...وإذا كان الأمر كذلك فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه، ولم ير أن يستسقيه من مصبه، ويأخذه من معدنه))[9].
لكن التسليم بكمال الدرس النحوي العربي واكتماله فيه شيء من الغلو والتعصب، لأن النحاة ورغم عنايتهم ببعض الأساليب كالذكر والحذف، والتقديم والتأخير، فإن عنايتهم بأواخر الكلم وما يعتريها من بناء وإعراب مركّزة على المبنى، غافلة عن بعض جوانب المعنى، (( ربما لا أكون مغاليا إذا قلت نحن لا نفهم اللغة كما ينبغي، لأن أكثر دراستنا تتعلق بالعلاقات الظاهرة بين الكلمات، أما المعنى فهو بعيد عن تناولنا وفهمنا. بل ربما لا أكون مغاليا إذا قلت إننا نجهل أكثر مما نعلم فيما نحسب أننا نعلم))[10].
لا ننكر أن النحاة عرضوا لبعض مسائل المعنى، لكن هذا لم يكن كافيا، لسعة العربية، وكثرة الأساليب التعبيرية فيها، ومن هنا بدت الحاجة لعلم يستكنه المعاني من خلال دراسة اللغة ((باعتبارها "كلاما محددا" صادرا من "متكلم محدد" وموجها إلى "مخاطب محدد" بـ"لفظ محدد" في "مقام تواصلي محدد" لتحقيق "غرض تواصلي محدد"))[11].
ومن هنا جاء علم المعاني الذي يعرفه السكاكي بقوله:
(( اعلم أن علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطإ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره))[12].
ويضم علم المعاني ثمانية أبواب، فقد جاء في التلخيص للخطيب القزويني: ((وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال وينحصر في ثمانية أبواب: أحوال الإسناد الخبري، أحوال المسند إليه، أحوال المسند، أحوال متعلقات الفعل، القصر، الإنشاء، الفصل والوصل، الإيجاز والإطناب والمساواة))[13].


[1]) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1998، ص 20.
[2]) السكاكي أبو يعقوب محمد، مفتاح العلوم، تحقيق: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية،1987، ص 75.
[3])  الجرجاني أبو بكر عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، دون ط، 1991، ص28.
[4]) صحراوي مسعود، التداولية عند العلماء العرب، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص 174.
[5])  الجرجاني أبو بكر عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، دون ط، 1991، ص 04.
[6])  الجرجاني أبو بكر عبد القاهر، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، دون ط، 1984، ص 81.
[7] ) حسان تمام، الأصول دراسة ابستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، عالم الكتب، القاهرة، 2000، دون ط، ص 310.
[8] )  الجرجاني أبو بكر عبد القاهر، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، دون ط، 1984، ص 82/83.
[9] )  الجرجاني أبو بكر عبد القاهر، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، دون ط، 1984، ص 28.
[10] ) السامرائي فاضل صالح، معاني النحو، شركة العاتك، القاهرة، دون ط، دون سنة، ج01، ص08.
[11] ) صحراوي مسعود، التداولية عند العلماء العرب، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص 26.
[12]) السكاكي أبو يعقوب محمد، مفتاح العلوم، تحقيق: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية،1987، ص 161.
[13]) جلال الدين محمد الخطيب القزويني، التلخيص في علوم البلاغة، شرح: عبد الرحمان البرقوقي، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1932، ص 37/38.
وانظر جلال الدين محمد الخطيب القز ويني، الإيضاح في علوم البلاغة، تحقيق إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص 24.

ليست هناك تعليقات