التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

مظاهر الإبداع في النحو العربي:


مرحلة التوطئة والتمهيد:
بدأ النحو يأخذ طريقه نحو الاستقلال، فبعد أن كانت بدايته بدافع ديني وقومي صار يدرس لذاته، واتسعت موضوعاته وأغراضه ووجد له دارسون مختصون أرادوا إلى أن تكون اللغة كلها ميدان هذا الدرس الجديد، وطفقوا يدرسون النحو لذاته لا لأنه عمل من الأعمال القرآنية[1]، فالباحث في هذه المرحلة على الرغم من أنه لا يأمل في الوصول إلى نحو نضجت واستقرت مفاهيمه إلا أنه يلمس سعيا نحو التميز والنمو لعلم النحو.
ويرجع الفضل إلى مدرسة البصرة ((فلا خلاف في أن بداية النحو كانت في البصرة وأن شجرته نمت في تربتها ولم ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد أن كادت أصوله تتمايز وقواعده تتحدد وبعد ظهور طبقتين من النحويين ونشوء طبقة ثالثة في البصرة، فالطبقة الأولى من الكوفيين كانت تقابل الطبقة الثالثة من البصريين)).[2]
ومن أبرز رجال الطبقة الثانية عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو وأبو عمرو بن العلاء الذين تركز نشاطهم اللغوي والنحوي حول جمع وتصنيف النصوص والأشعار المروية ثم استنباط الأحكام والقواعد النحوية، فعبد الله بن أبي إسحاق يعد منعرجا وتحولا هاما في تاريخ النحو العربي ((فهو أول من بعج النحو ومد القياس وشرح العلل وكان مائلا إلى القياس في النحو))[3]، ومما روي عن علمه قول ابن سلام: ((سمعت أبي يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه، قال: هو والبحر سواء[4]...قال ابن سلام: فقلت أنا ليونس: هل سمعت من ابن أبي إسحاق شيئا؟ قال نعم. قلت له هل يقول أحدهم الصُّويق؟ يعني السويقَ قال نعم عمرو بن تميم تقولها، وما تريد إلى هذا؟ عليك بباب من النحو يطرد وينقاس))[5].
وكأن في هذا الرد دعوة لمن سأله بأن يحذو حذوه وينهج نهجه في أن يقيس ما ليس بمسموع من كلام العرب على ما هو مسموع، فهذه عناية بالقياس تلفت النظر إلى الذهنية القياسية التي وجدت منذ القديم[6]، فتلقين مذهب القياس لمن بعده جلي في هذه العبارة، وفي هذا الرد أيضا دليل على تحول هام في تاريخ الدراسات اللغوية فبعد أن كانت تقتصر على الجمع والتبويب والتصنيف تحولت مع عبد الله ابن إسحاق إلى تمعن وتدبر في الظواهر اللغوية المطردة لاستنباط الأحكام والقواعد، ولا يعني هذا أن ابن أبي إسحاق قد توصل إلى الكثير من القواعد النحوية وإنما كان له فضل شق طريق القياس كمنهج جديد في البحث اللغوي، ولعل أبرز ما يدل على ما نقول ما روي عن تخطئته لبعض الشعراء، فقد ((قال ابن أبي إسحاق للفرزدق في مديحه لأمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك:
مستقبلين شمال الشام تضربنا             بحاصب كنديف القطن منثورِ
على عمائمنا يلقى وأرحلنا             على زواحف تزجى مخها ريــرِ
أسأت، إنما هو "مخّها ريرُ"، وكذلك قياس النحو في هذا الموضع.
قال يونس: والذي قال جائز حسن، فلما ألحوا على الفرزدق قال :
"على زواحف تزجيها محاسيرُ".
فترك الناس هذا ورجعوا إلى الأول))[7].
ومن هنا يمكن القول أن هذه المرحلة من حياة النحو العربي سادت فيها نزعة التيار القياسي الذي يركز فيه أصحابه على القياس في مقابل الآثار المروية من كلام العرب، لكن أبا عمر بن العلاء وهو من رجالات هذه المرحلة كان يزاوج بين المأثور من القول والقياس، فقد جاء في الطبقات: ((إن أبا عمرو كان أشد تسليما للعرب، وكان ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان عليهم))[8]، ومن هنا برزت ظاهرة الخلاف النحوي حيث لم تعد المسائل النحوية متفقا عليها، فنجد حينما أنشد الفرزدق بيته المشهور:
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع     من المال إلا مسحتا أو مجلفُ
نجد أن ابن أبي إسحاق يخطؤه بقوله: على أي شيئ رفعت مجلفُ؟ فقال الفرزدق على ما يسوؤك وينوؤك. أما أبو عمرو بن العلاء فقال للفرزدق أصبت، وهو جائز على المعنى أي لم يبق سواه، رفع مجلفُ على الاستئناف، فكأنه قال: أو مجلفُ كذلك[9]
بدت الحاجة إلى القياس في الاستدلال اللغوي عامة والنحوي على وجه الخصوص كون اللغة كمدونة محدودة الألفاظ والنصوص المسموعة، بينما المعاني والتعابير غير محدودة، ومن هنا كان لزاما على النحوي ومنذ العصور الأولى لبداية النحو أن يحمل بعض القضايا على بعض، ((فالقياس قول مؤلف من قضايا إذا سُلّمَت لزم عنها لذاتها قول آخر... وعند أهل الأصول القياس إبانة مثل حكم المذكورين بمثل علته في الآخر واختار لفظ الإبانة دون الإثبات لأن القياس مظهر للحكم لا مثبت))[10]. والقياس من أدلة النحو الأولى ووسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل، أو يحتاج في الوثوق من صحة عربيتها إلى مطالعة كتب اللغة أو الدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها.
وللقياس صلة شديدة بالنحو حتى قيل: "إنما النحو قياس يتبع"، ومن حدود النحو المرتبطة بالقياس ما جاء به السيوطي في الاقتراح: ((هو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه))[11].
 أي أن نتائج النحو يتحتم انطباقها على غير المنقول، وهو الذي لم يتناوله الاستقراء استغناء عنه بالمنقول، وبانطباق النحو على غير المنقول يصبح متسما بالشمول بحيث لا يبقى من لغة العرب ما لا يخضع لقواعد هذا النحو[12].
وفي الرد على من أنكر القياس في النحو يقول ابن الأنباري أبو البركات في أصوله: (( اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق، لأن النحو كله قياس، ولهذا قيل في حده النحو علم بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يعلم أحد من العلماء أنكره لثبوته بالدلالة القاطعة، وذلك إنا أجمعنا على أنه إذا قال العربي : كتب زيد فإنه يجوز أن يسند هذا الفعل إلى كل اسم مسمى تصح منه الكتابة نحو عمرو وبشر وأزدشير، إلى ما لا يدخل تحت الحصر، وإثبات ما لا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال))[13]
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى مظاهر الإبداع والتطور النحوي لدى النحاة العرب ألا وهو منهجهم في الاستشهاد فالشواهد اللغوية للنحوي هي مادته التي تدور حولها استنباطاته وأحكامه، فكان القرآن الكريم بمثابة أعلى نص فصيح اعتمده النحاة، واستشهد النحاة بما أنتجته الفاعلية الشعرية والنثرية العربية في العصر الجاهلي، فقسموا القبائل العربية إلى قبائل فصيحة يحتج بكلامها وتؤخذ عنها اللغة، وأخرى لا يحتج بكلامها.
تلكم هي حال النحو ومعالمه عند هؤلاء العلماء قبل الخليل وسيبويه، إنها بمثابة مرحلة تمهيدية لعلم النحو العربي بالمعنى العلمي، فقضايا النحو في هذه المرحلة ظلت جزئيات مستقلة بحاجة إلى من يستكشف الروابط التي بينها ويجمعها تحت مظلة واحدة ونسق واحد هو علم النحو.
وكما أبدع النحاة العرب في منهجهم في الاستشهاد والاحتجاج أبدعوا أيضا حين ابتدعوا منهجهم في التدوين والتأليف الذي لم تكن الأمة العربية تعرفه، فالتدوين كان غائبا تماما في هذه المرحلة، حيث لم تسجل البحوث النحوية وبقيت متداولة في المجالس والمناظرات، وهذا ما ساعد على نضج التفكير اللغوي العربي ونضج المسائل التي كانت تناقش شفويا، كما مهدت هذه المناقشات والمناظرات لمرحلة التدوين لرجال الطبقة التالية.


[1]) المخزومي مهدي، في النحو العربي نقد وتوجيه، دار الرائد العربي بيروت، الطبعة الثانية، 1986، ص 13.
[2]) السامرائي فاضل صالح، الدراسات النحوية واللغوية عند الزمخشري، دار النذير، دون ط، بغداد،1971، ص 32/33.
[3]) الزبيدي أبو بكر محمد بن الحسن، طبقات النحويين واللغويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، ص 31.
[4] ) المخزومي مهدي، في النحو العربي نقد وتوجيه، دار الرائد العربي بيروت، الطبعة الثانية، 1986، ص 13.
[5]) الزبيدي أبو بكر محمد بن الحسن، طبقات النحويين واللغويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، ص 31/32.
[6]) الأفغاني سعيد، في أصول النحو، مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية، دون ط، 1994، ص 83.
[7]) الزبيدي أبو بكر محمد بن الحسن، طبقات النحويين واللغويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، ص 32.
[8]) الجمحي محمد ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: أبو فهر محمود محمد شاكر، دار المدني، دون ط، جدة، ص 12.
[9]) ابن الأنباري أبو البركات، الإنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق: جودة مبروك محمد مبروك، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002، ص 160.
[10]) الجرجاني علي بن محمد الشريف، كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، طبعة جديدة، بيروت، 1985، ص 190.
[11]) السيوطي جلال الدين، الاقتراح، تحقيق محمود سليمان ياقوت، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2006، ص 203.
[12]) حسان تمام، الأصول دراسة ابستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، عالم الكتب، القاهرة، 2000، دون ط، ص 58.
[13]) السيوطي جلال الدين، الاقتراح، تحقيق محمود سليمان ياقوت، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2006، ص 206.

ليست هناك تعليقات