التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

اللسانيات البنوية:


وفي العصر الحديث يعد دي سوسير  أول من شق الطريق نحو ضرورة إعادة النظر في مناهج التفكير اللغوي فكان بهذا من أوائل المؤسسين لعلم اللغة بالمفهوم الحديث، حيث بلغ كتابه "محاضرات في اللسانيات العامة" قيمة كبيرة في اللسانيات الحديثة قبل هذا العصر، فقد ساعد في تحديد مجرى لسانيات القرن العشرين والابتعاد بها كليا عن مناهج اللسانيات التاريخية[1]، وإعادة النظر فيما تركه الباحثون السابقون، وما كانت في الحقيقة إعادة نظر فحسب بل ثورة على المفاهيم والأساليب المسلمة التي ما كان يجرؤ أحد قديما على جدالها وإنزالها من مستوى التقديس الأعمى إلى مستوى النظر والتمحيص[2].
هذه الثورة في مجال البحث اللغوي أفرزت رؤى مناهضة للنظرية اللغوية الغربية القديمة، حيث اكتسب بعدها علم اللغة الغربي دقة منهجية وضبطا نظريا، واستقر على ما يعرف بالمنهج الوصفي الذي يعيب على النحو القديم:
§                   تعليله للظاهرة اللغوية وإخضاع اللغة لأصول المنطق.
§                   سن القواعد وفقا لميول الباحث وفرضها على اللغة فرضا.
§                   فرض منطق اللغة اليونانية على اللاتينية دون مراعاة خصوصية الظاهرة اللغوية.
لقد كان هذا المنهج ثورة على المنهج  التاريخي الذي سيطر على اللغويين الأوربيين قبل ظهور اللسانيات، فحاول أصحاب هذا المنهج الجديد أن يركزوا على مبدإ العلمية والموضوعية في دراسة اللغة، وأصبحت اللسانيات باعتبارها الدراسة العلمية الموضوعية للغة تقدم على أنها مقابلا للنحو التقليدي أو القواعد، وثورة على الدراسات التاريخية، وكذا علم اللغة المقارن، ((لقد ألزمتنا ضرورة عرض منهج وصف يغطي -بكيفية منسجمة- مجموع ظواهر اللسان استباق نتائج مجهود جماعي يهدف -رغم سوء التنسيق- بالنسبة للوحدات الدالة إلى استخراج ما تمثله الصويتيات للوحدات المتمايزة))[3].
وعن النحو المعياري يقول دي سوسير : (( إن هذه الدراسة التي بدأها الإغريق وأخذها عنهم الفرنسيون اعتمدت على علم المنطق، وهي تفتقر إلى النظرة العلمية ولا ترتبط باللغة نفسها، وليس لها من هدف سوى وضع القواعد التي تميز بين الصيغ الصحيحة وغير الصحيحة، فهي دراسة معيارية تبتعد عن الملاحظة الصحيحة للحقائق، ومجالها محدود ضيق))[4].
وعن الدراسات الفيلولوجية يقول: (( ليست اللغة الهدف الوحيد لهذه الحركة، فقد اهتم علماء فقه اللغة بتصحيح النصوص المكتوبة وشرحها والتعليق عليها...وكان هدفهم من دراسة المسائل اللغوية مقارنة النصوص التي كتبت في فترات زمنية مختلفة لمعرفة اللغة التي يختص بها كل مؤلف من مؤلفي هذه النصوص))[5].
 كما لم يسلم علم اللغة المقارن من انتقادات دي سوسير، فرغم اعترافه بفضل الدراسات المقارنة في اكتشاف فرع جديد من فروع اللغة إلا أنه اعتبرها ((لم تفلح في إنشاء علم اللغة الحقيقي، لكونها أهملت البحث في طبيعة الموضوع الذي تدرسه))[6].
واللسانيات بوصفها الدراسة العلمية للغة يعني أنها العلم الذي يتناول اللغة البشرية برؤية علمية دقيقة تقوم على تقصي الظواهر اللغوية، ووصف الواقع اللغوي القائم بذاته وتحليله للوصول إلى الكشف عن القواعد والقوانين المتعلقة بالظاهرة اللسانية المدروسة.
فالجديد في أعمال "دي سوسير" هو ضبط الكثير من المفاهيم اللغوية والتي عجزت الدراسات التاريخية عن الفصل فيها، وكذلك نجاحه في صرف أنظار الباحثين عن القضايا الفلسفية في اللغة "نشأة اللغة، أهي وقفية أم اصطلاحية؟ أهي سابقة للفكر أم الفكر أسبق منها؟..."، وصار اهتمام الدرس اللغوي وصف البنية اللغوية بالنظر إلى اللغة في ذاتها، فهو يرى أن اللغة ليست مجموعة العبارات التي يتفوه بها قسم من الناس بل إنها شيء آخر يربطهم جميعا في إطار منتظم، إنها ((نتاج اجتماعي لملكة اللسان، ومجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة هذه الملكة))[7].
فهي نظام من الدلائل راسخ في أذهان الجماعة يمارس عند التلفظ لدى هذه الجماعة من الناس، فهي ليست نتاجا فرديا ولا وجود لها إلا عند الجماعة.
واستطاع دي سوسير  رد الكثير من آراء النحو المعياري، وفصل الدرس اللغوي عن العلوم الأخرى، وألقى في حقل الدراسات اللغوية بمبادئ كثيرة ومتنوعة أهمها:
-         ثنائية اللغة والكلام.
-         إشارته إلى لسانيات الكلام ولسانيات العلامة.
-         اعتباطية العلامة اللغوية (الدال والمدلول).
-         ثنائية الزمنية والتزامنية.
-         فكره البنوي اعتبر اللغة نظاما مترابط الوحدات.
وبهذا الصدد تركزت مهمة اللساني حول استنباط واكتشاف القوانين التي تضبط الظواهر اللغوية لتحديد الانتظام الداخلي من خلال القواعد المحددة لبنية اللغة، (( ولعل هذا الأسلوب في تصور علاقة عالم اللسان بموضوع علمه هو الذي جعل رواد بعض التيارات في تعريفهم الظاهرة اللغوية يتوسلون بمفهوم البنية، مرجحين بذلك عنصر الهوية العضوية على الماهية الوظيفية...إن حد اللغة بأنها علامات منتظمة قد حتم إرساء مفهوم البنية))[8].
ويركز الاتجاه البنوي على تقطيع العبارة اللغوية إلى علامات لغوية دالة وأخرى غير دالة معتمدا مبدأ التدرج من الأعلى تركيبا إلى الأدنى تركيبا للحصول على الوحدات الأساسية المكونة للغة ثم البحث فيها لاستكشاف القواعد المنظمة لها والقوانين الداخلة في ضبطها، ((فاللسان أداة تبليغ يتم وفقها تحليل التجربة البشرية -بكيفية مختلفة عند كل قوم- إلى وحدات ذات محتوى دلالي ومركب صوتي هو الكلمات وإن المركب الصوتي يتقطع بدوره إلى وحدات متوالية متمايزة هي الصويتات وتكون بعدد محدود في كل لسان إلا أن طبيعتها وعلاقاتها المتبادلة تختلف أيضا من لسان إلى لسان آخر))[9].
تأخذ  اللسانيات البنوية بعين الاعتبار الظاهرة اللغوية قصد استخراج المنظومة التي تحكمها، وليس الاعتماد على نظام جاهز معد مسبقا، وقد سار على نهج "دي سوسير"  لغويون كبار من حلقة "براغ " وحلقة "كوبنهاجن" و"مارتيني" زعيم البنوية الوظيفية في فرنسا، ((لأن البحث في اللغة في أوربا وأمريكا قبل القرن التاسع عشر كان بحثا ذاتيا أو غير موضوعي، كما كان بحثا يقوم على التخمين والتأمل العقلي وغير منهجي...أهم ما يعنينا الآن أن علم اللغة _كما نعرفه اليوم_ ما هو إلا تطور لمعارضة واعية لخصائص المناهج التقليدية في الدراسة اللغوية خلال القرون الماضية))[10].
نعم، هذا هو حال الدرس اللغوي في أوربا وأمريكا آنذاك، ((وفي السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين، وبينما كان دي سوسير  منهمكا بصياغة أفكاره في أوروبا،كانت اللسانيات التزامنية تنمو في أمريكا بصورة مستقلة، وبأسلوب مختلف تمام الاختلاف تحت زعامة أحد علماء الإنسان (الأنتروبولوجيا) ويدعى "فرانز بواس"، ولقد فتح "بواس" أمام علماء اللسانيات الأمريكيين اتجاها أثبت فيما بعد فائدة كبرى، وبقي هذا الاتجاه دون منازع حتى ظهر "تشومسكي" على مسرح الأحداث في أواخر الخمسينات))[11].
ولم تبق البنوية حبيسة القارة الأوربية فقد تلقف اللغويون الأمريكيون ما جاء به دي سوسير  وعلى رأسهم الأنتروبولوجي "بواس"، والسلوكي "بلومفيلد" الذي التزم المنهج الوصفي رغم مزاوجته بين السلوكية والوصف.
وهكذا أصبحت اللسانيات العلم الذي يهتم بكل اللغات فيدخل تحت طائلتها ((كل النظريات والمفاهيم والمناهج العلمية التي تتناول اللسان كظاهرة موضوعية وتحاول تفسيرها بالاعتماد على التجربة والاستدلال العقلي سواء كان من إبداع اللسانيين الغربيين أو غيرهم))[12].
لكن اللسانيات الغربية في تناولها للغة ركّزت على ما هو حديث فقط لأنها اعتبرت  الدراسات القديمة مرت بثلاث مراحل:
-                   أولها النحو المعياري الذي يفرض على اللغة قواعد وقوانين قسرية تعسفية مستعلية على اللغة.
-                   وثانيها مرحلة الفيلولوجيا التي تعود إلى "فريديريك" أوغست 1777 م.
-                   وثالثها الفيلولوجيا المقارنة التي ترجع بدايتها إلى "فرانز بوب"[13]، وهذه المراحل الثلاث كلها خارجة عن نطاق اللسانيات التي أسس لها "دي سوسير"  لأنها فاقدة للموضوع والمنهج، خارجة عن المفاهيم السوسيرية.
لقد اعتبر"دي سوسير"  اللغة موضوعا للسانيات ووصفها بأنها نظاما من العلامات، وأن الدراسة العلمية للغة هي التي تدرسها لذاتها ومن أجل ذاتها، بمعنى عزل اللغة عن المؤثرات الخارجية حين نريد استنباط واكتشاف الضوابط والقوانين التي تحكم ظاهرة لغوية معينة للغة معينة،كالبحث مثلا في الكلمة وما يلحق بها من تغيرات يضبطها عندنا علم الصرف، أو كالبحث في العلاقات التي يضبطها علم النحو، وهذه الرؤية السوسيرية أسست لما يعرف باللسانيات البنوية التي كانت ثورة على اللسانيات التاريخية والمقارنة، وهكذا نفهم الأسس النظرية التي تسوغ لنا ما يتواتر في عرف اللسانيات من اعتبار اللغة مجموعة من العلاقات الثنائية القائمة بين العلامات المكونة لرصيد اللغة ذاتها... ولعل هذا الأسلوب في تصور علاقة عالم اللسان بموضوع علمه هو الذي جعل رواد بعض التيارات في تعريفهم الظاهرة اللغوية يتوسلون بمفهوم البنية))[14].


[1]) مومن أحمد، اللسانيات النشأة والتطور، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2005، الطبعة الثانية، ص 121.
[2]) الحاج صالح عبد الرحمان، بحوث ودراسات في علوم اللسان، موفم للنشر، الجزائر، دون ط، 2007، ص 07.
[3]) أندري مارتيني، مبادئ في اللسانيات العامة، ترجمة: سعدي زوبير، دار الآفاق، دون ط، الجزائر، ص 10.
[4]) فردينان دي سوسير، علم اللغة العام، ترجمة: يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق العربية، بغداد، الطبعة الثالثة، 1985، ص19.
[5]) المرجع السابق، ص 19.
[6]) المرجع السابق، ص 21.
[7]) المرجع السابق، ص 27.
[8]) المسدي عبد السلام، اللسانيات وأسسها المعرفية، الدار التونسية للنشر، دون ط، 1986، ص 31.
[9]) أندري مارتيني، مبادئ في اللسانيات العامة، ترجمة: سعدي زوبير، دار الآفاق، دون ط، الجزائر، ص 24.
[10]) جون ليونز، نظرية تشومسكي اللغوية، ترجمة: حلمي خليل،دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية،الطبعة الأولى، 1985، ص 39.
[11]) جفري سامسون، مدارس اللسانيات التسابق والتطور، ترجمة: محمد زياد كبة، مطابع جامعة الملك سعود، دون ط، السعودية، 1980، ص51.
[12]) الحاج صالح عبد الرحمان، بحوث ودراسات في علوم اللسان، موفم للنشر، الجزائر، دون ط، 2007، ص 184.
[13]) فردينان دي سوسير، علم اللغة العام، ترجمة: يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية، بغداد، الطبعة الثالثة، 1985، ص19.
[14]) المسدي عبد السلام، اللسانيات وأسسها المعرفية، الدار التونسية للنشر، دون ط، 1986، ص30/31.

ليست هناك تعليقات