تعريف الوزن:

ولقد اهتمَّ النُقّاد والفلاسفة المسلمون القُدامى بتعريف الشّعر والمُقـارنة
بينه وبين النّثر من منطلق أنّ الوزن هو أهمّ ما يُميّز الشّعر عن النّثـر، لكنّهم
اختلفوا في مكانته من بين أركان الشّعر، فمنهم من بوّأه مقاماً رفيعاً، ومنهم من
عَدَّهُ مُجرَّد رُكن، لا يستقيم الشّعر به وحده دون غيره من الأركان.
والوزن في اللغة كيْل الشَّيء وبيان مقداره واختبار ثقله وخِفّته وامتحانه
بما يُعادله، وهو ثقل شيءٍ بشيءٍ مثله كأوزان الدَّراهم، ويقال إذا كاله فقد وزنه
أيضاً، ويُقال: وزنَ الشَّيء إذا قدّره،
ووازنه: عادله وقابله، ويُقال للآلة التي توزن بها الأشياء ميزاناً، والميزان
المقدار، وأوزان العرب ما بَنت عليه أشعارها، واحدها وزن، وقد وزن الشّعر وزناً
فاتّزن ([1]).
ويرتبط الوزن ارتباطاً وثيقاً بالشّعر فلم يكد يُعرف للشّعر تعريف خلا من لفظة
"الوزن" أوإحدى مشتقاتها، وهذا ما جعل الوزنَ رُكناً ركيناً في الشّعر، إذا
سقط الوزن سقطَت معه شعريّة هذا الشّعر.
وللوزن وظيفة تمييزيّة بين الشّعر والنّثر جعلت من ابن رشيق يقول عنه: "الوزن أعظم أركان حدِّ الشّعر،
وأولاها به خصوصيّة... "([2]).
وينظر الفلاسفة المسلمون للوزن في الشعر على أنه وسيلة من وسائل المحاكاة أوالتخييل
لكنهم في الوقت نفسه حرصوا على تأكيد أن القول لا يكون شعرا إلا إذا اجتمع فيه
المحاكاة والوزن معا، وعلى الرّغم من إلحاحهم على أن المحاكاة (الاستخدام الخاص
للغة) والوزن هما العنصران الجوهريان اللذان يميزان الشعر عن غيره من ألوان القول،
فإنهم جعلوا الأولوية المطلقة لعنصر المحاكاة على عنصر الوزن، ذلك أن المحاكاة هي
السمة النوعية الخاصة التي تكسب القول سمة الشاعرية[3].
ولوتتبّعنا تعريف الشّعر في النّقد القديم نجده يُؤكّد على أهمّيّة العلاقة
بين الشّعر والوزن، فأوزان الشّعر العربي قديمة قِدَمَ هذا الشّعر، سايرت هذا الشّعر
ولازمته طيلة مراحل تطوّره حتّى استقامت واكتملت ونضجت مع استقامته واكتماله
ونُضجه.
وفي حديث ابن رشيق عن أصالة أوزان الشّعر العربي يقول: "فاحتاجت العرب
إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطِيب أعراقها وذكر أيّامها الصَّالحة، وأوطانها
النّازحة، وفرسانها الأمجاد، وسُمحائها الأجواد، لتهزَّ أنفُسها إلى الكرم وتدلّ
أبناءها على حُسن الشّيَم فتوهّموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلمّا تمَّ لهم
وزنه سمَّوه شعراً "([4]).
ويستزيد القول في الوزن فيقول: "والمتّزن ما عُرض على الوزن فقبله،
فكأنّ الفعل صار له، ولهذه العلّة سُمّيَ ما جرى هذا المجرى من الأفعال مطاوعة، هذا
هوالصَّحيح "([5]).
وعلى حدِّ قول ابن رشيق: "والمطبوع مُستغنٍ بطبعِه عن معرفة الأوزان
وأسماعها وعللها لنمو ذوقه عن المُزاحف منها والمُستكره، والضّعيف الطّبع مُحتاج إلى
معرفة شيء من ذلك بعينه على ما يُحاوله من هذا الشّأن"([6]).
وأوّل من ألّف الأوزان وجمع الأعاريض والضّروب الخليل بن أحمد "فوضع
فيها كتاباً سمّاه "العروض" استخفافاً... "([7]).
فللشّعر العربي أوزان استنبطها الخليل بن أحمد وصنّفها في بحوره الخمسة عشر
ودوائره الخمس فأسَّسَ بعمله هذا علم العروض الذي أصبحَ ضابطاً للوزن، ومشاهداً بصحَّته بعدما كان الذَّوق وحده
مرجعاً في السّلامة الوزنيّة للشّعر.
ولم يفـرق الدارسـون والنقـاد بين الشّعر والنثـر إلا بتحديدهم لمفهــوم الـوزن،
فقـد جاءت الدّراسـات النّقديّـة حافلـة به وذلك لأهمّيّـة البعد الوزني في بناء
القصيدة العربيّة، وقيمته المُتميّزة في تشكيلها، ومن ذلك قول القرطاجنّي: "والوزن
هوأن تكون المقادير المُقفّاة تتساوى في أزمنة متساوية لاتّفاقها في عدد الحركات
والسَّكنات والتّرتيب"([8]).
وعند الخفاجي: "وهوالتّأليف الذي يشهد الذّوق بصحّته أوالعروض، أمّا
الذّوق فلأمرٍ يرجعُ إلى الحِسّ وأمّا العروض فلأنّه حصرت فيه جميع ما علمت العرب
من الأوزان"([9]).
ومفهوم الوزن ودلالته عند الموسيقيّين ونُقّاد الشّعر والشّعراء غامضة فهو يختلف
عن الإيقاع حيناً ويشتبه به أحياناً أخرى، وقد شهد النّقد الأدبي الحديث والقديم خلْط
بين مفهومي الوزن والإيقاع، فالوزن عند الفارابي "زمان النّطق بالأجزاء
اللفظيّة المحدودة العدد والمتساوية"([10]).
ولكي تكون الأقوال موزونة يجب أن
يساوي عدد زمان القول الواحد عدد زمان الأقوال في الكلام الذي يتكوّن منه النصّ،
ولكي يساوي زمن القول الواحد أزمنة الأقوال
الأخرى، لا بُدَّ أن تتساوى تلك الأقوال في عدد ما تتكوّن منه من حركات وسكونات
وفي نوعها.
فالموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤُه في الطّول والقِصَر والسَّواكن
والحركات فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناً.
ومن النحويين من يستعمل مفهوم الوزن في الصرف لطبيعة العربية التصريفية لكن
العروضيين استعملوا هذا المفهوم أيضا لكن بشكل مختلف، فالوزن الصرفي شكل ومضمون
فللصيغ دلالات كالفاعلية والمفعولية...الخ، "أما الوزن العروضي فإنه لا يملك
إلا وظيفة قياس زمن نطق النصوص ولا يرتبط بأي معنى"([11]).
إن طبيعة الحرف لا دلالة لها فالعبرة بكون الحرف ساكنا أو متحركا وعلى هذا
الأساس يكون الوزن العروضي لأي نص لغوي هو سلسلة السواكن والمتحركات المرفقة به.
ويسند مصطفى حركات مجموعة من الوظائف للوزن باعتباره واردا في جل الثقافات العالمية، ولم يأت بصفة اعتباطية:([12])
الوظيفة الموسيقية: فالشّعر بخلاف
النثر يغنى، والذي يتيح الغناء هورتابة الوزن، ودوريته، وخضوعه لقواعد مضبوطة.
الوظيفة التعليمية: فما هو موزون يحفظ أكثر من غيره، ولا غرابة إذن أن تأخذ العديد من
المؤلفات التعليمية، مثل الألفية لابن مالك في النحو والخزرجية في العروض شكل منظومات.
وظيفة الحفظ: فالشّعر أكثر
ديمومة من النثر وهو يبقى شكلا ومضمونا، ولا يقبل تحريفا لأن الوزن يمنع ذلك، فلا
غرابة إذن أن يستدل النحاة بالشّعر فهو للأمثلة أبين، وللإعراب أحفظ.
الوظيفة الجمالية: فالوزن تركيز
على شكل الرسالة، وبهذا فهو جزء هام من الوظيفة الشّعرية.
وهذه الوظيفة الأخيرة للوزن جعلت الكثير من المعاصرين يتناولون الوزن من
حيث هو نغمة موسيقيّة متكرّرة وفق نظام مُعيّن، وهذه النغمة تجعل من الكلام شعراً، كما قد تتشكل الأوزان من
انسجام الوحدات الموسيقيّة التي تتكوّن من توالي مقاطع الكلام وخضوعها إلى ترتيب مُعيّن([13]).
ومن سمات الوزن أيضاً التّناوب الصّحيح المُنضبط لعناصر متشابهة، أو التّكرار
الدّقيق لنَفَس القصيدة.
وقبل أن نختم الحديث عن الوزن لا غرو أن نشير إلى الخلط الذي قد يقع فيه بعضهم
بين مفهوم الوزن ومفهوم الإيقاع هذا الأخير يظهر بشكل عام أنه أشمل من الوزن،"لأنّه
يظهر في النّثر أيضاً ومن ذلك المقطوعات المسجوعة، والمقامات، والدّراسات التي
تناولت البنى الإيقاعيّة في القرآن الكريم وجدير بالذّكر القول أنّ الوزن والإيقاع
وجهان لعُملةٍ واحدة فالوزن قرين الإيقاع لأنّ نشوء الإيقاع المُنتظر مُحال عملياً
دُون وُجود قالب خارجي أو نظام مسبق التشكّل يتوقّع أن تُحقّقه الكلمات"([14]).
ومن هنا لا يُمكن نقد الوزن بحُجّة القوالب الجاهزة المُقيّدة أو الجامدة،
ومحاولة إقصاء الوزن لحساب الإيقاع أو إقصاء الإيقاع لحساب الوزن، فكلاهما أداة
نقديّة خالصة وفي مايلي محاولة لفك الارتباط بين الوزن والإيقاع على المستوى
النظري.
https://www.noor-publishing.com/catalog/details/store/fr/book/978-620-0-07082-1/%D8%B9%D9%80%D8%B1%D9%88%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9?search=%D8%B9%D8%B1%D9%88%D8%B6%20%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%84
https://www.noor-publishing.com/catalog/details/store/fr/book/978-620-0-07082-1/%D8%B9%D9%80%D8%B1%D9%88%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9?search=%D8%B9%D8%B1%D9%88%D8%B6%20%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%84
[1] - كتاب العين للخليل، لسان العرب لابن منظور، مادة (وزن) .
[3] - الروبي ألفت كمال، نظرية
الشعر عند الفلاسفة المسلمين، الطبعة الأولى، دار التنوير للطباعة
والنشر،بيروت،1983،231
[4] - ابن رشيق، العمدة، 20 .
[5] - ن م، 120 .
[6] - ن م، 134 .
[7] - ن م، 135 .
[12] - ن م، 98
[14] - أبوديب كمال، في البنية الإيقاعية للشعر العربي، دار العلم
للملايين، بيروت، 1974، 322
ليست هناك تعليقات