التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

تعريف الإيقاع:


لغة:
لفظة (الإيقاع) لفظة عربيّة أصيلة، لا هي بالمعرّبة ولا بالدّخيلة ففي (لسان العرب) جاء في مادّة (و ق ع): وقع بمعنى سقط، ويُقال سمعت وقْع المطر وهو شدَّة ضربه، والوقعة في الحرب صدمة بعد صدمة، وأن يقضي في كلّ يوم حاجة إلى مثل ذلك الغد (...) والوقعة، المرّة من الوقوع " السّقوط ".
والوقع والوقيع الأثر يُخالف اللون، والتّوقيع رميٌ من قريب، وإصابة المطر بعض الأرض وإخطاؤه بعضها.
والتّوقيع في الكتاب: إلحاق شيءٍ فيه بعد الفراغ منه، وقيل مُشتقٌ من التّوقيع الذي هو مخالفة الثاني الأوّل.
والتّوقيع في السَّير شبيه بالتّلفيق وهو رفعه يده إلى فوق([1]).
هذه المعاني تُوحي باشتراك لفظ "وَقَعَ" ومُشتقاته في معاني مُحدَّدَة هي الانتظام في  الحُدوث، والتّكرار، ووُجود ثنائيَّة سلب وإيجاب، والتتابع.
فوَقعُ المطر: انتظام وتِكرار وتتابُع.
وتوقيع المطر: إصابة وإخطاء (سلب وإيجاب) تكرار وتتابُع وانتظام.
والوَقعُ والوقيع (اللون): سلب وإيجاب وتتابُع وتِكرار.
والتَّوقيع في الكتاب: إثبات الحُضُور إثرَ غيبته كالإمضاء: تأكيد أونفي.
وتذكُر القواميس العربيّة الإيقاع في علم الموسيقى بمعنى إيقاع ألحان الغناء([2])، والإيقاع في الموسيقى هو توقيع الألحان وإبانتها فهو يقوم على تبيين ما يُقسّم الأزمنة إلى أجزاء متقايسة  بها يتحقّق الانتظام ([3]).
ولا يختلف مفهوم الإيقاع في معناه اللغوي العام عند العرب عن مفهومه اللغوي عند غيرهم من الأُمم رغم أنّه كان في المعاجم الغـربيّة المُعـاصرة أوضَـح، فقـد وَرَد مثـلاً في تعـريف مُصطلـح إيقـاع في موسوعة "لاروس" لآداب الفرنسيّـة "الإيقاع هوتناوب مُنتظم لا يُغيّره بعض ما يطرأ على الأحداث المُتقابلة في تخفيفات (...) ولم يكُن الإيقاع كونياً، عالمياً، جسدياً، إناسياً إلاّ لأنّه من الشكل وليس من المعنى (...) فالإيقاع في تعريفه الشّكلي يندرج باعتباره تنظيماً مفارقاً للسان" ([4]).
وجاء في المنجد الصغير لآداب اللغة الفرنسيّة " Petit Larousse illustré": الإيقاع تِكرار العناصر التي يختصّ بها البيت الشّعري في مُدد يُدرك انتظامها الحسّ (...) والإيقاع في معناه الاصطلاحي العام هوتِكرار ظاهرة في مُدد مُنظّمة يُمكن إدراكُها، وقد تكون هذه الظّاهرة فيزيولوجيّة (نبض القلب، إحساس بالزّمن، نوم ويقظة)، أوبصريّة مثل: (ضوء أومنارة، خطوط وألوان   تزويقيّة أوهندسيّة)، أوسمعيّة مثل:(أصوات أوضجيج)، أوكونيّة مثل: (نهار، ليل) أواجتماعيّة: (عمل، راحة) غير أنّ انتظام ما يُدرك من الظّاهرة لا يقتضي وُجوباً تساوي المُدد التي تفصل ما تكرّر ([5]).
أما المعنى الاصطلاحي للفظ الإيقاع فيحمل عنصرين: "المشترك الدلالي الثابت، والدلالة المضافة المتغيرة وعليه فإن الإيقاع قد استعير من الحركات المنظمة للأمواج، ويجمع هنري ميشونيك الكثير من التعاريف لهذا المفهوم، وجميعها تراه في دلالته العامة، تعاقبا انتظاميا لوحدة أو وحدات، وفق وضع معين وعدد محدد، ومدة زمنية معينة "([6])
 والملاحظ أن لفظة " إيقاع " يتجاذبها ميدان الموسيقى وميدان الشّعر، ورُبّما هي مُصطلح موسيقي أكثر منه شعريّ، لما يحمله من دلالة على مُكوّن من مُكوّنات الموسيقى، بينما في الشّعر عُرفت كلمة الوزن أكثر من كلمة إيقاع وفي كثير من الأحيان يتداخل المصطلحان حتّى يكاد يكون الوزن هوالإيقاع  والإيقاع هوالوزن، ونرجع هذا التّداخل في المفهوم إلى سببين:
01 – التقاء الموسيقى بالشّعر في مجال الغناء.
02 – طبيعة المصطلحين المرتبطة بالزّمن، والدّور الأساسي للزّمن في التّوقيع الموسيقي والتّوقيع في الشّعر.
والقربى بين الغناء والشّعر حميمة قديمة، ويكاد الفنان يكونان توأمين، حتى لقد ذهب بعض العلماء إلى أن الشّعر من مواليد الغناء وذلك لأن الشعوب القديمة كالبابلين والمصريين واليونان والعبرانيين كانت تقرن شعرها بالموسيقى.([7])
بالإضافة إلى هذا فإن الفلاسفة وإن ميزوا بين الإيقاع الموسيقي والإيقاع الشعري على أساس أن الشعر مادته الحروف والكلمات وأن الموسيقى مادتها الأنغام، فإن تصورهم للوزن الشعري لم يكن يستند إلى كون الشعر لغة، وأن موسيقى الشعر يمكن أن تنبع من اللغة نفسها،إما كألفاظ مفردة لكل منها شخصيته الإيقاعية أوطرازها الخاص في النبر، وإما كألفاظ في تراكيب، حيث تحدد الوظيفة النحوية للكلمة ما إذا كانت منبورة أوغير منبورة، فضلا عن أن البنية المعنوية للغة قد تشكل الإيقاع والوزن أيضا. ([8])
لكن غياب المصطلح من الثقافة النقدية العربية يدل على أنه لم يدخل في الحقل الدلالي للشعر، إلا أنه ورد بدلالته الموسيقية.
ثم إن استعمال الوزن عند النّقّاد القُدامى غالب على استعمال الإيقاع، لكن هذا الأخير حاضرٌ عند بعضهم، ومنه قول ابن طباطبا:" وللشّعر الموزون إيقاع يطربُ الفهم  لصوابه، وما يردُ عليه من حُسن تركيبه واعتدال أجزائه، فإذا اجتمع الفهم مع صحّة وزن الشّعر وصحّة المعنى وعذوبة اللفظ، فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تمَّ قبوله له واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها، وهي اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحُسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إيّاه على قدر نقصان أجزائه، ومثال ذلك الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستمعه المتفهّم لمعناه ولفظه مع طِيب ألحانه، فأمّا المُقتصر على طِيب اللحن من دون ما سواه فناقص الطّرب. وهذه حال الفهم فيما يرِدُ عليه من الشّعر الموزون مفهوماً أومجهولاً "([9]).
في هذا المقطع من كتاب عيار الشّعر مقابلة بين إيقاع الشّعر وإيقاع الغناء، فقوله:" إيقاع يطرب " وقوله: "الغناء المطرب" والرّبط بين الأوّل والثاني بقوله: "ومثال ذلك "، قوله هذا إشارة إلى اشتراك الموسيقى والشّعر في مصطلح الإيقاع كما سَبَقَ وأشَرنا.
قول ابن طباطبا هذا تؤكّده أقوال أخرى لنقّاد آخرين يقولون بارتباط الشّعر بالغناء، أوغنائيّة الشّعر، حيث يقول ابن رشيق: " الغناء حلّة الشّعر إن لم يلبَسها طُوِيَت" ([10]).
وبعضهم جعل الطرب باعثا من بواعث الشّعر ومحرّضا على القول لا نتيجة له، فالطرب قد يفكّ عقدة لسان الشاعر لأن الشّعر قد يمتنع على قائله ولا يسلس حتى يبعثه خاطر يطربه، أوصوت حمامة([11]).
ويجعل أبونصر الفارابي الصّناعة الشّعريّة هي رئيسة الهيئة الموسيقيّة  "فلنُوقف القول على هذا ونجعل هيئة صيغة الألحان رئيسة هيئة أداء الألحان، وأشدّ تقدّما لها بالطّبع، وأما تقدمها لها بالزمان فهوبيّن"([12]).
ويُضيف الفارابي: "الموسيقى والشّعر يرجعان إلى جنس واحد هوالتأليف والوزن والمُناسبة بين الحركة والسّكون، فكلاهما صناعة تنطق بالأجناس الموزونة، والفرق بينهما واضح في أنّ الشّعر يختصّ بترتيب الكلام في معانيه على نظم موزون مع مراعاة قواعد النّحوواللغة، وأمّا الموسيقى فهي تختصّ بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون، وإرساله أصواتاً على نسب مؤتلفة بالكمّيّة والكيفيَّة في طرائق تتحكَّم في أسلوبها بالتّلحين"([13]).
ويقودنا كلام ابن طباطبا إلى القول أنّ صواب الإيقاع واستقامته تجمع بين حسن التّركيب، وصحَّة الوزن، وصحّة المعنى، وعذوبة اللفظ، وكأنّ تفاعل هذه العناصر مع بعضها البعض بشكل مُنسجم، وتجاوبها وتآلفها يُكسب الشّعر صواب الإيقاع.
فالاختلاف والتّنافر بين الصّورة السّمعيّة للملفوظ والصّورة الذّهنيّة له يصكّ الأذنَ فيكونُ نشازاً يُنكره الفهم (الذوق) ويمجّه السّمع.
ويُواصل ابن طباطبا  تلمُّس بعض معالم الإيقاع العامّة في حديثٍ عن علَّة حُسن الشّعر فيقول: "وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم،لا تحُدّ كيفيّتها كمواقع الطّعوم المُركّبة الخفيَّة التّركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييج الفائحة المُختلفة الطّيب والنّسيم، وكالنّقوش المُلوّنة التّقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المُطرب المُختلف التّأليف، وكالملامس اللذيذة الشهيَّة الحسّ، فهي تُلائمه إذا ورَدَت عليه – أعني الأشعار الحسنة للفهم – فيلّذها ويقبلها ويرتشفها كارتشاف الصّديان للبارد الزّلال، لأنّ الحكمة غذاء الرّوح، فأنجع الأغذية ألطفها..." ([14]).
من كلام ابن طباطبا هذا نستكشف شُمُوليَّة الإيقاع وتعدُّدَ مجالاته، ومن هنا كانت الصّعوبة في حدِّه  حدّاً جامعاً مانعاً، فلا يُمكن تعريفُه تعريفاً شاملاً، إلاّ بعد تحديد السّياق الدّلالي المُستعمل فيه، فهناك إيقاع في الرّسم  وإيقاع في النَّحت، وإيقاع في الظّواهر الطّبيعيّة... إلخ.
هذه النظرة تحمل في طيّاتها ملامح النّظام الإيقاعي الذي يقوم على التلاؤم والتناسب والانسجام ولولاها ما تحقق هذا التلاحم، بين الأجزاء، فإذا ما خرج جزء عن موضعه الطبيعي، اختل النظام والنسق، واضطرب  المعنى وفسد([15]).
وفي كلام ابن طباطبا  تصريحٌ واضح بشموليّة وعموميّة الإيقاع فقد أشار إلى إيقاع الطّعوم المُركّبة الخفيفة التّركيب وإيقاع الأراييج الفائحة  وإيقاع النّقوش المُختلفة التّقاسيم والألوان، وإيقاع الملامس.
غير أنّ المجال المعرفي الذي اختصَّ به الإيقاع وبرَزَ فيه بشكل دقيق هوالموسيقى والشّعر وهذا ما لم يفُت ابن طباطبا حين استدركَ بقوله: "وكالإيقاع المُطرب المُختلف التآليف".
إنّ الشّعر موسيقى قبل كلّ شيء وإنّ العنصر الموسيقي يفوق في الأهمّيَّة المعاني والعواطف والصّور الشّعريّة ذاتها، باعتبار أنّ الموسيقى هي أقوى أداة للإيحاء، والشّعر إيحاء أكثر منه تعبيراً لغوياً صريحاً واضحاً([16]).
وأمّا الإيقاع عند ابن خلدون فوارد في فصل صناعة الغناء بقوله:"هذه الصِّناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نِسَبٍ مُنتظمة معروفةٍ توقّع على كلّ صوت منها توقيعاً عند قطعة فتكوّن نغمة ثمَّ تُؤلّف تلك النغم بعضها إلى بعض على نِسَب متعارفة فيلذّ سماعها لأصل ذلك التّناسب وما يحدُث عنه من الكيفيّة في تلك الأصوات" ([17]).
وفي هذا التّعريف ذكر الشّعر والوزن والتَّوقيع والنَّغَم، وهذه العناصر تدور في فلك الإيقاع،  ودالَّة على القرابة الشَّديدة بين الشّعر والوزن، وبين الوزن والإيقاع، وبين الإيقاع والموسيقى (النَّغَم).
وفي حديث ابن خلدون عن التَّناسُب والملائمة التي تُحدث اللذَّة في الغناء يقول: "والمحسوس إنّما تُدركُ منه كيفيَّته فإذا كانت مناسبة للمدرِك وملائمة كانت ملذوذة، وإذا كانت مُنافيةً له كانت منافرة (...) فالملائم من الطّعوم ما ناسب كيفيَّته حاسَّة الذَّوق في مزاجها، وكذا الملائم من الملموسات، وفي الرّوائح ما ناسَبَ مزاج الرُّوح..." ([18]). أمَّا المرئيَّات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفيّاتها ([19]).
في هذه الفقرة من كلام صاحب المقدمة نجدُ أنَّه لا يختلف مع ابن طباطبا في حديثه عن الإيقاع والموسيقى وكذلك عند توسيعه لمفهوم الإيقاع ليشمل عدَّة مجالات من الحياة.
كما يتلاقى ابن خلدون مع ابن طباطبا في شرط الملائمة لحُدوث اللذَّة في الملموس والمسموع.

[1] - ابن منظور، لسان العرب، مادة (و ق ع) .
[2] - ن م .
[3] - عبيد علي، نظام الإيقاع في الشعر العربي، 47 .
[4] - عبيد علي، نظام الإيقاع في الشعر العربي، 48 .
[5] - Petit Larousse illustré 1988 librairie Larousse Canada
[6] - إسماعيل يوسف، بنية الإيقاع في الخطاب الشعري، منشورات وزارة الثقافة جمهورية سوريا، الطبعة الأولى، 2004،08
[7] - الجوزومصطفى،  نظريات الشعر عند العرب، الطبعة الثانية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1988، 62
[8] - الروبي ألفت كمال، نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين،261
[9] - ابن طباطبا، عيار الشعر، 53 .
[10] - ابن رشيق، العمدة، 39 .
[11] - الجوزومصطفى، نظريات الشعر عند العرب،70
[12] - الفارابي أبونصر، الموسيقى الكبير، 62 .
[13] - الفارابي أبونصر، الموسيقى الكبير، ج 1، 16 - 17 .
[14] - ابن طباطبا، عيار الشعر، 54
[15] ابتسام أحمد حمدان، الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي،57
[16] - بشير خلدون،  الحركة النّقديّة أيام ابن رشيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، 52 
[17] - ابن خلدون، المقدّمة، 440 .
[18] -  ن م، 442
[19] -  ن م، 442

ليست هناك تعليقات