الإيقاع عند المُحدثين:
في الدراسات القديمة غلب مصطلح الوزن على الإيقاع لكن تواتر هذا اللفظ في
خطاب الباحثين ناتج من التأثر بالثقافة الغربية، فقد استعملت لفظة الإيقاع في الشّعر
اليوناني واللاتيني ثم في اللغات الأوربية التي انفصلت عن اللغات القديمة،فهوأحد
مكونات عروض شعرها ([1])، فكلّ
شيء من دون الإيقاع هوشيء عادي من أشياء الحياة اليوميّة العابرة، اللغة،
الإشارات، الرّموز، الأسماء، الصِّفات، العناصر، الصُّور، المحسوسات،
المُجرَّدَات، إلى آخره... حتّى الوزن الشّعري لا يغدوعنصراً شعرياً أي لا يُكوّن
النصّ الذي يتلبّسه شعراً قبل أن يُخامره الإيقاع ويتسرَّب فيه وهُنا تبرُز أوَّل قضيَّة
فكريّة أمامَ هذه المقولة تتعلَّق بمفهوم الإيقاع من جهة، وبالفارق أوالفوارق
الأساسيّة بينه وبين مفهوم الوزن من جهة ثانية ([2]).
والإيقاع تشابُه عام في نِظام مُعيَّن يتخلَّلُه اختلاف جزئي من جُزئيّات
النّظام، هذا ما يجعلُهُ يستوعِب مادّة الفُنون جميعاً فهووجهٌ من وُجوه النّظام
والوحدة([3])، والإيقاع
مفهوم عام للانسجام والتَّوافُق يتجسَّدُ في كافّة مظاهر الحياة والفُنون، في
الطّبيعة والأدب والرّسم ([4]).
ووجود إيقاع للطّبيعة وآخر للعمل وإيقاع الإشارات الضَّوئيَّة وأنَّ هناك
بالمعنى المجازي إيقاعات للفنون التّشكيليَّة([5]).
إن مناقشة هذه الآراء لبعض الدّارسين للإيقاع تُكسبه مفهوماً واسعاً فضفاضاً،
وهذا ما جعل الإيقاع عصيّاً عن التّعريف، فلم يُجمع الباحثون على تعريف جامعٍ
مانعٍ، بل اختلف حدّه، وتعريفه باختلاف رؤية ونظرة صاحب التّعريف، كلٌّ حسب تخصّصه
ومنهجه.
كما أن خاصيَّة الكمّ والتّناسب في الوزن الشّعري ما هي إلاّ قطرة من بحرٍ
من تناسب الأصوات كما هومعروف في كتب الموسيقى ([6]).
هذا عن الإيقاع بشكلٍ عام، أما الإيقاع
في الخطاب الشّعري، فلا يقتصر على الصَّوت،
إنَّه النّظام الذي يتوالى ويتناوب بموجبه مؤثّر صوتي أوشكلي أوجوما وهمي، فكري،
سحري، روحي. وهوكذلك صيغة للعلاقات (التّناغم، التّعارض، التّوازي، التّداخل) فهوإذن:
ويُشكلّ الإيقاع كلّ عناصر الفنّ الشّعري من أسلوب تركيبي وخيالي وتصويري
وصوتي ودلالي إذ تقوم بين هذه الجوانب علاقات متواشجة، تربطُ الدَّالَ بالمَدلول،
والشَّكلَ بالمَضمُون، وِفقَ نِظامٍ
إيقاعيٍّ خاصّ([9]). ويذهب
شكري عياد إلى أن "الإيقاع حركة مُنتظمة والتئام أجزاء الحركة في مجموعات
مُتساوية ومُتشابهة شرطٌ لهذا النّظام، وتميّز بعض الأجزاء عن بعض في كُلّ مجموعة
شرط آخر، إذ إنَّ سلسلة الحركات أوالأصوات إذا انعدَمَت منها هذه القيم المُتميّزة
استحالت إلى مُجرَّد تردُّد أوذبذبة" ([10]).
ويرى بعض الدَّارسين أنَّ مفهوم الإيقاع يرتبط أساساً بالزّمن، "فالإيقاع
هوالتّناوب الزّمني المُنتظم للظّواهر المُركّبة وهوالخاصيَّة المُميّزة للقول الشّعري،
والمبدأ المُنتظم للفقه"([11]).
كما يُمثّل الإيقاع "تردُّد المقادير في نِسَب زمنيَّة محفوظة وثابتة
"([12]).
من خلال مُلاحظة هذا الكمّ من التَّعريفات أومُحاولة حدِّ الإيقاع نصِلُ
إلى أنَّ هذه الزّئبقيَّة في المُصطلح تُحيطُهُ بكثير من اللبس، لذا فتتبّع
تعريفات تجمعُها بعض القواسم المُشتركة هي فقط ما يُوصلنا لبناء تصوُّر علمي
مُشترك لهذا المُصطَلَح، والابتعاد به عن الإقصاء والإسقاط الذي قد يلحقه من
جرَّاء هذه الزِّئبقيَّة وهذا المفهوم الواسع الفضفاض.
ويرى بعض الدَّارسين أنّ الإيقاع مُرتبطٌ بالصَّوت على اعتبار أنَّ المُصطلح
مُنحدر من الموسيقى التي تقوم أساساً على البُعد الصَّوتي "وتناسُب الأصوات والأزمنة،
فاللحن يتكوَّن من درجات إيقاعيَّة لكلّ واحدٍ منها زمنٌ مُعيَّن، وهذه الأزمنة
تضبِطُ الأصواتَ وأجزاءَها، والسّكوت الذي يُمكن أن يتخلَّلَها" ([13]).
لكن الدراسات النقدية الحديثة لا تخلُ من لفظة الإيقاع بوصفه مصطلحا يرتبط
بالشّعر، وقد جاءت كثير الدراسات الشّعرية تحمل في عناوينها لفظة"إيقاع"
ويعود هذا إلى: ([14])
-
التثاقف الحضاري بين النقد العربي والنقد الأجنبي.
-
تطوير البحث في الشّعرية العربية وخاصة ما يرتبط بالإيقاع.
-
المفاهيم النظرية الجديدة للحركة الشّعرية الحديثة حول بناء القصيدة خصوصا
ما تعلق بالمستوى الإيقاعي.
وتوفيقا بين القديم والحديث وبين الموسيقى والشعر وبين الوزن والإيقاع نختم
بما جاء في المقدمة: "تبيَّنَ في علم المُوسيقى أنَّ الأصوات تتناسبُ ليكُون
صوتٌ نصفَ صوتٍ، ورُبعَ آخر، وخُمسَ آخر، وجُزءاً من أحد عشر من آخر، واختلاف هذه
النِّسَب عند تأديتها إلى السَّمع يُخرجها عن البساطة إلى التّركيب، منها ملذوذاً
عند السَّمع بل تراكيب خاصَّة هي التي حصَرَهَا علم الموسيقى" ([15]).
[2] - الهاشمي علوي، فلسفة الإيقاع، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية
للدراسات والنشر، بيروت، 2006، 17 .
[3] - شكري محمد قاسم مقداد، البنية الإيقاعية في شعر الجواهري، الطبعة الأولى، دار دجلة،الأردن، 2010، 18 .
[4] - إسماعيل عز الدين،الأسس الجمالية
في النقد العربي، الطبعة الثالثة،دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد،1986،115
[5] - رينيه ويليك، أوستن: نظريّة الأدب، المؤسسة العربية للدراسات
والنشر، بيروت،1987، 210
[7] - سعيد خالدة: حركيَّة الإبداع، الطبعة الثانية، دار العودة
للنشر، بيروت، 1982، 111 .
[9] - إبتسام أحمد حمدان،الأسس الجماليّة للإيقاع البلاغي، الطبعة
الأولى، دار القلم العربي، حلب، سوريا،1997، 10
.
[10] - عياد شكري: موسيقى الشّعر-مشروع دراسة علمية -، الطبعة الثانية،
دار المعرفة، القاهرة، 1978، 57 .
[11] - فضل صلاح، نظريّة البنائيّة في النّقد الأدبي،الطبعة الأولى،
دار الشروق، القاهرة 1998، 71 .
[12] - أحمد كشك، الزّحاف والعلّة، رؤية في التّجريد والإيقاع، دار
غريب، القاهرة، 2005، 151 .
[13] - صالح مهدي، الموسيقى
العربية تاريخها وأدبها، الطبعة الثانية، الدار التونسية للنشر، تونس، 1986، 111 .
ليست هناك تعليقات