التسمية

اللّسَانُ السّابِعissane7L

آخر المنشورات:

الأصول اللسانيَّة للإيقاع:


إذا كانت اللغة مادّة الشّعر، وكانت اللغة موضوع اللسانيات، فلا بُدَّ ّ للسانيّات أن تُدلي بدلوها في شعريَّة الشّعر، وقد كان للأثر السّوسيري والإرث الذي خلَّفه الشَّكلانيّون الرُّوس مكان في بناء الأسس النّظريَّة للشّعريَّة، خصوصاً تلك المُتعلّقة بالمفاهيم والمبادئ الأساسيَّة التي يتقدّمها الشَّكل.
فقد رفض الشكلانيون  رفضاً قاطعاً ما كانت تذهب إليه النّظرة التقليديّة، من أنّ لكلّ أثر ثنائيّة متقابلة الطّرفين هي الشَّكل والمضمون، وأكّدوا أنّ الخطاب الأدبي يختلف عن غيره ببروزشكله، بمعنى أن الشّكلانيّين قد تحرروا من المفهوم التقليدي الذي يربط الشَّكل بالمضمون، ليُثبتوا أنّ الوقائع الفنّيّة ذاتها تشهد على أنّ الفوارق المميّزة الخاصّة بالفنّ، لا تتمثّل في نفس العناصر الدّاخليّة في تكوين العمل الفنّي، وإنّما في الكيفيّة التي يتمّ استخدامها بها، وبهذا فإن "مفهوم الإيقاع يتسع ليشمل مظاهر عديدة من تركيب النسيج اللغوي للشعر مع مراعاة عنصر أساسي هوأن الأثر المشترك لجميع هذه العوامل أوالأكبر نسبة منها هوالذي يخلق الإيقاع".([1])
والشّكل هنا ليس بالمفهوم الضيّق وإنّما يُحيل على البنية أوالصّورة أوالصّياغة أو المنظور، فالتركيز عند الشّكلانيّين على الشّكل وعناصره المُهيمنة، لوصف العمليّات الوظيفيّة، لتقديم وصف علمي للنصّ الأدبي يُقيم علاقات بين عناصره، واستقصاء مختلف المستويات الصَّوتيَّة والموسيقيَّة والنّحويَّة والمُعجميَّة، مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقات المُتبادلة بين هذه المُستويات.
فالنصّ في نظر الشَّكلانيّين بنية تفرضها وحدات اللغة من الصَّوت إلى الجُملة، بما في ذلك الحركة النّغميَّة (الإيقاع)، وللنصّ الشّعري بنية تركيبيّة مُرتبطة بالإيقاع، ولذلك فإنّ مفهوم الإيقاع يُصبح مرتبطاً بالجوهر اللساني للشّعر، والوزن إذا ما قِيسَ بالإيقاع يأتي بالمرتبة الثانية، ومن هنا يكون الإيقاع أساساً للبناء الشّعري، يُحدّد عناصره السَّمعيَّة وغير السَّمعيَّة ([2]).
ويتّسع مفهوم الإيقاع ليشمل عناصر لسانيَّة عِدَّة كالمدّ في الكلمات، والنَّبر في الجُمل، ومن هنا لا يكتسب الشّعر شعريَّته إلا من خلال الإيقاع المُنظّم له فالأنساق الإيقاعيّة تُساهم بدرجات مختلفة في خلق الانطباع الجمالي.
لقد كان اهتمام الشّكلانيّين بالإيقاع دافعاً جعل"جاكبسون" يُركّز على مُختلف القضايا الصَّوتيَّة حيث  أدخل الصَّوتيّات المُختبريَّة إلى مجال الدَّرس الفونولوجي، وتقوم نظريّة "جاكبسون" الفونولوجيَّة على أساس التقابلات المائزة، مؤسّسة على مبدأ الثنائيَّة، ويظهر هذا انطلاقاً من القول بأنّ الوحدات اللغويّة تردُ في صورة أطراف تقع في تقابلها ذات وجهين توضّح وجود خاصيّة مائزة في مقابل غياب هذه الخاصيّة.
فالأوصاف التي ساقها "جاكبسون" للسّمات الصَّوتيّـَة، قـد حاول من خلالها البحث في البنية الصَّوتيَّة إلى جانب البنية الأسلوبيَّة والإيقاعيَّة لدراسة ما يُسمّيه هو(أدبيَّة الأدب).
ومن هُنا يُؤكّد للجميع أنّ القضيّة الجوهريَّة عنده هي "قضيَّة الأدب باعتباره موضوعاً للدّراسة الأدبيّة" أوما يجعل الأدب أدباً، وما يجعلُ الشّعر شعراً، ولعلّ بنية الإيقاع في الخطاب الشّعري أجدر بالبحث إذا تعلّق الأمر بالشّكل.
فلا يُمكن إخفاء أثر المدّ اللساني في حقول النّقد الأدبي، فاستثمار مبادئ اللسانيّات في الشّعريَّة أمرٌ حتميّ، كون هذه الأخيرة حقلا معرفيا قريبا من النّصوص اللغويّة، والقاسم المُشترك بين الشّعريّة واللسانيّات هواللغة.
ويطرح "جاكبسون" تعريفاً للشّعريَّة يربط فيه بينها وبين اللسانيّات مفاده أنه:"يمكن تحديد الشّعرية باعتبارها ذلك الفرع من اللسانيات الذي يعالج الوظيفة الشّعرية في علاقاتها مع الوظائف الأخرى للغة"([3])، بمعنى أنه  يُمكن وصف الشّعريّة بالدّراسة اللسانيّة للوظيفة الشّعريّة في سياق الرّسائل اللفظيّة عموماً، وفي الشّعر على وجه الخصوص.
هذه المقاربة بين الشّعريَّة واللسانيّات تظهر جليَّة من خلال المظهر الصَّوتي، الذي لا ينفكّ عن الدَّرس اللساني كما لا ينفكّ عن الشّعريَّة أيضاً، كون المظهر الصَّوتي "تمثيلاً للإيقاع" هوالظّاهرة المهيمنة في شعريَّة الشّعر.
ومن هنا فإن موسيقى الشّعر ليست شيئاً قائماً بمعزلٍ عن المعنى، وإلا كان بالإمكان كتابة شعر يمتلك جمالاً موسيقياً كبيراً، دون معنى، ولكن لم أعثُر أبداً على هكذا شعر، فموسيقى القصيدة قائمة على تناغم الأصوات وتناغم المعاني الثانويّة للكلمات  بل حتّى الصّور تساهم في خلق سنفونيَّة الموسيقى بإيقاعاتها الصّاخبة لأنّ موسيقى الشّعر تلف تحت أجنحتها جوانب القصيدة.

[1] - فضل صلاح، نظرية البنائية في النقد الأدبي،51
[2] - ن م، 52،53
[3] - رومان جاكبسون، قضايا الشّعريّة، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، المغرب، 35 .

ليست هناك تعليقات