اللسانيات التوليدية التحويلية:
بعدما ظهرت المدرسة الوصفية البنوية على غيرها من
الدراسات اللسانية الغربية التي بدأت تحيف عن المنهج الوصفي، بل وضاقت به ذرعا،
جاء "تشومسكي" بنظرة نقدية ليغير موضوع اللسانيات من اللغة إلى الكلام
فيقول: ((إن البنية المشتركة افتراضيا بين البشر عموما هي الحالة البدئية لملكة
اللغة))[1]، فالموضوع الأول
للنظرية اللسانية هو المتكلم المستمع المثالي المنتمي لعشيرة لغوية متجانسة كليا،
والذي يعرف لغته، وعندما يطبق معرفته هذه في إنجاز فعلي فإنه لا يخضع للشروط
النحوية غير الملائمة كقصور الذاكرة أو عدم الانتباه أو الأخطاء)).
ومضمون هذ الكلام أن الإنسان الناشئ في بيئة معينة قادر
على التعبير بلغة هذه البيئة التي نشأ فيها، بمعنى أنه قادر على استيعاب معاني عدد
غير متناه من جمل هذه اللغة، ليس هذا فحسب وإنما يستطيع هذا الإنسان أن يصوغ من
الجمل ما لم يسبق له سماعه، ((ففي إطار الألسنية التوليدية التحويلية نسمي المقدرة
على إنتاج الجمل وتفهمها في عملية تكلم اللغة بالكفاية اللغوية، ونميز بين الكفاية
اللغوية وبين ما نسميه بالأداء الكلامي، فالكفاية اللغوية هي المعرفة الضمنية
باللغة، في حين أن الأداء الكلامي هو الاستعمال الآني للغة ضمن سياق معين))[2]،
فالقدرة على إنتاج عدد لا متناه من الجمل عند تكلم اللغة أو ما يسمى الكفاية
اللغوية يختلف عن الأداء الكلامي الذي يتمثل في الاستعمال الآني للغة ضمن سياق
معين، فواجب اللغوي إيجاد وسيلة من نوع
ما تسمى نظام القواعد تقوم بتوليد جميع جمل لغة معينة، ولا تولد جملا لاوجود لها
في تلك اللغة[3]،
((فالألسنية التوليدية التحويلية تحدد موضوع دراستها بالإنسان المتكلم المستمع
السوي التابع لبيئة لغوية متجانسة تماما، والذي يعرف لغته جيدا، ويمكن اعتبار
المتكلم المستمع بالإضافة إلى اعتباره موضوع الدراسة الألسنية مصدر اللغة عندما
يستعمل في أدائه الكلامي معرفته الضمنية بقواعد اللغة فبصورة عامة يستطيع الإنسان
الذي يتكلم لغة معينة أن ينتج جمل لغته وأن يفهمها وأن يدلي بأحكام عليها من حيث
الخطأ والصواب في التركيب))[4].
وهذه الرؤية الجديدة لتشومسكي
اتخذت من المتكلم وكفايته اللغوية موضوعا لدراستها خلافا لما قامت عليه البنوية
التي ركز أصحابها على دراسة اللغة لذاتها ومن أجل ذاتها، كما اختلفت المدرسة
التوليدية التحويلية عن المدرسة البنوية عندما أقامت الأولى تحليلاتها اللغوية على
التراكيب خلافا لما قامت به البنوية حينما بحثت في السلاسل الكلامية وتقطيعها إلى
وحدات دالة وأخرى غير دالة.
لقد أعادت نظرية تشومسكي صياغة
الكثير من المبادئ اللسانية لأن تشومسكي قد أحاط علما بالبحوث اللسانية التي سبقته
وخصوصا بحوث البنويين والسلوكيين، فقد رفض التوليديون نظرة البنوية السلوكية
القائمة على مبدإ "مثير-استجابة" بينما يقدم منهج "تشومسكي" ((
وصفا رياضيا دقيقا لبعض الملامح البارزة في اللغة، وفي هذا الصدد تبرز أهمية خاصة
لقدرة الأطفال على بناء جمل نحوية صحيحة منظمة واشتقاقاتها من خلال ما يسمعونه من
آبائهم وممن حولهم من الناس بحيث يستغلون نفس القواعد المنتظمة التي يسمعونها في
بناء وتركيب جمل لم يسمعوا بها قط من قبل))[5]،
وهذا هو المكون التركيبي الذي يجمع نسق من القواعد لتوليد عدد لا نهائي من الجمل
لكل منها بنية سطحية وأخرى عميقة، فهذه الرؤية الجديدة لتشومسكي أتت
على بنيان البنوية من القواعد فقوضت دعائمه وأسسه لتؤسس لنظرة جديدة تجاوزت البنية
السطحية التي تكاد تفسر القدرة اللغوية تفسيرا آليا فيزيائيا بعيدا عن القصدية،
تجاوزتها إلى البنية العميقة التي تولي اهتماما كبيرا بعنصر الإبداع، وقد تركزت
ثوابت البرنامج التوليدي حول نقطتين أساسا:[6]
·
بناء
نماذج صورية واضحة لما يمثل معرفة لغة أو لغات طبيعية معينة.
·
تقديم
تفسير لمشكل التعلم، أو كيف يصل متكلم لغة إلى اكتساب ما يكتسبه من معرفة عن لغته،
علما بأن دور التجربة اللغوية الخارجية في تشكل هذه المعرفة جد محدود.
[1]) نعوم تشومسكي، آفاق جديدة في دراسة اللغة
والعقل، ترجمة: عدنان حسن، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، الطبعة الأولى،
2009، ص85.
[2] ) ميشال زكريا، الألسنية التوليدية التحويلية،
للمؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1986، ص 07.
[3] ) نعوم تشومسكي، البنى النحوية، ترجمة: يؤيل
يوسف عزيز، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1987، ص 113.
[4]) ميشال زكريا، الألسنية التوليدية التحويلية،
للمؤسسة الجامعية للنشر، بيروي، الطبعة الثانية، 1986، ص08/09.
[5]) جون ليونز، نظرية تشومسكي اللغوية، ترجمة:
حلمي خليل، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1985، ص31.
[6]) عبد القادر الفاسي الفهري، المقارنة والتخطيط
في البحث اللساني العربي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1989،
ص 15.
ليست هناك تعليقات