الأسـاس الكمّـي في الشعر العربي:

لم يترك لنا القدماء تصورا واضحا لهذه القضية، ولكن إحساسهم بكمية الوزن
العربي يفهم ضمنا من نظامهم العروضي، فالنظام العروضي العربي يدل بوضوح على كمية
الوزن الشعري، ولكن بعض المعاصرين لم يعترف بهذا الأساس، أو لم يعترف
بأنه الأساس الوحيد لأوزان الشعر العربي، وقد ردد هذه الآراء عدد من
المستشرقين والعرب، حتى صارت قضية أساس الأوزان العربية من القضايا التي لا يمكن
تجاهلها.
فقد كان تحديد طبيعة النّظام العروضي للغة العربيَّة محلَّ نقاش لكثير من الدّراسات والبحوث، حيثُ
حاول الكثير من النّقّاد تفسير النّظام العروضي العربي، من خلال البحث في الخصائص
الصَّوتيَّة لهذه اللغة، لكن هذا لم يمنع من انقسامهم إلى فريقين: الأوّل يجعل
العروض العربي كمّياً، والثاني يجعلُهُ نبرياً.
ولقد اهتمَّت الدّراسات الحديثة
بإيقاع الشّعر العربي قديمه وحديثه، فلم تجِد بُدًّا من تتبّع آثارالخليل
بن أحمد وأتباعه في بُحوثهم العروضيَّة، ولم تهمل جهد المستشرقين في هذا الباب،
كما لم تنأ عن النّظريّات الغربيَّة حيث نجد فيها ما يكشفُ عن جوانب من الإيقاع
الشّعري عامَّة والعربيّ خاصَّة.
لكنّ هذا كلَّه لم يكُن كافياً لكشف ما بات غامضاً من أمر الإيقاع في
الشّعر العربي أهُوَ كميّ أم كيفيّ، ورُبّما أهو كميّ أم نبريّ، أم الاثنين معاً،
وأمام هذا التداخل في المصطلحات والاختيارات، كان لزاماً أن نستبين من هؤلاء
الدّارسين -الذين اجتمعوا على إيقاع الشّعر العربي- حقيقة هذا الأمر لكن الواقع أن
المصطلحات فرقتهم، وتباينت لديهم التصوّرات، فاختلفت نتائجُهُم بتعدّد مناهجهم
ووسائلهم.
فالدّراسـات الإيقاعيَّة العربيّة ما زالت غامضةً وموضع جدل بين من يرى
ضـرورة توزيع العناصر التي يعتمدها الإيقاع بشكل مُنتظم ومحسوس قابل للقياس، ومن
يرى عدم ركنيّة القابليّة للقياس، فانقسم الباحثون بين مُؤيّد للأساس الكمّي، وآخر
مؤيّد للأساس الكيفي (النّوعي).
ومعظم الدّراسات تركّزت حول
الخصائص الصَّوتيَّة للغة، محاولة الاستناد إلى معرفة علميّة تمكّنها من فهم الأسس
اللغويّة، انطلاقاً من بعض العلوم الحديثة كاللسانيّات مثلاً أو الصَّوتيّات أو
حتّى ما يُعرف بعلم الإيقاع أو علم الإيقاع المقارن.
والملاحظ أنّ فكرة المقطع الصَّوتي والنَّبر جاءت من علم الصَّوتيَّات،
خصوصاً التّحاليل غير العربيَّة التي اعتنت بدراسة الأصوات مخبرياً، وتحليل اللغة
عموماً.
لكن الخصائص الصّوتيّة ليست واحدة في جميع اللغات، فالشّاعر حين يشرع في
كتابة قصيدة يخضع بالضّرورة لخصائص لغته التي يكتُب بها، حتّى يستطيع توظيف هذه
الخصائص الصَّوتيَّة لإنجاز سلسلة من الوحدات تُشكّل عادةً وزناً أو بيتاً، فهناك
لغات يرتكز عروضها على قواعد نبريَّة، وهناك لغات ثانية تفرض نظاماً كميّاً ولغات
ثالثة أخرى تفرضُ نظاماً مقطعياً.
ولقد حاول بعض الباحثين الوُصول إلى أن الأساس الإيقاعي للشّعر العربي هو (الكَمّ)
هذه المُحاولات ارتكزت أساساً على بعض المسائل الصَّوتيَّة والتّفعيلات.
فــ"من الناحية النظرية لاشيء أولى من كم المقاطع بأن يكون أساسا لأوزان
الشعر العربي فهو أبرز من أية صفة أخرى يمكن أن يتصف بها المقطع كالنبرأو
النغمة")[1](.
وتنبُع فكرة الكمّ من قياس الزّمن، وهي أساس جذري في الموسيقى إذ أنّ
العُنصُر المكوّن في التأليف المُوسيقي "المقياس" يشغل زمناً مُعيّناً
يُسمَّى الزّمن الكامل، ويفترض أنَّ كلّ حقل أو مقياس موسيقي يشغل الزّمن نفسَه،
لكن الزّمن يُمكن أن يشغل بنغمة واحدة أو نغمتين أو أكثر، وعندها يكون زمن النّغمات المجموعة
زمنياً كاملاً " ([2]).
هذا عن مفهوم الزّمن في الموسيقى والتّساوي الكمّي هنا يُراد به التّساوي
الزّمني، والكمّ في الموسيقى كمّ زمنيّ.
وفي الشّعر ينبُع مفهوم الكمّ في الإيقاع الشّعري من وجود نوعين من المقاطع
اللغويّة، لأحدهما نظرياً زمن يستغرقُه في النّطق يُعادلُ نصف زمن الثاني، النّوع
الأوّل هو المقطع القصير والنّوع الثاني هو المقطع الطّويل، وتتألّف من اجتماعهما
وحدات يُفترض أنّها تشغل الزّمن نفسه" ([3]).
فالوزن في العربية يقوم على ترتيب عدد من المقاطع على أساس الكم، ويختلف
هذا الترتيب من بحر إلى بحر، بل من وزن إلى آخر.
ولإقامة نظام إيقاعي كمّي على غرار الكمّ الموسيقي يقترح"أبو
ديب" تحقّق شرطين: ([4])
الأوّل: أن يتوفّر هناك مقياس يُعتمد، وفي اللغة هو المقطع الذي يمثّل
مزدوجة كمّيَّة تقوم بين عنصريها علاقة قابلة للتّحديد الواضح والدّقيق من حيث
الاستغراق الزّمني كما يُمكن أن تكون عناصر الكمّ أكثر من مزدوجة ما دامت الأجزاء
منتظمة زمنياً.
والثاني: اتّخاذ الشّكل الإيقاعي صورة كمّيَّة تُحقّق الصّفاء الكمّي على
أساس التّعادل، وليس بين العناصر الزّمنيَّة الصّغيرة بل بين الوحدات الإيقاعيّة
النّاتجة ".
[1] - يونس علي، نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي، 28
[2] - أبو ديب كمال، في البنية الإيقاعيّة للشّعر العربي، 196 .
[3] - ن م،196 .
[4] - ن م،198 .
ليست هناك تعليقات