ربط النحو العربي بالمناهج الحديثة:
ترتبط
النظريات العلمية حيال ظهورها بالمحيط الاجتماعي الذي تنشأ فيه، وعلم اللغة كغيره
من العلوم لم يخرج عن هذه القاعدة، ومن المؤكد أن هذه الظروف المحيطة تساهم بشكل
أو بآخر في رسم خططه وتحديد مناهجه.
ورغم
وهن الدراسات التاريخية المقارنة التي تميز بها القرن التاسع عشر إلا أنها تعد
خطوة هامة نحو استقلال المنهج في الدراسات اللغوية، فقد كانت دراسة اللغة قبل هذا
جزءا لا يتجزأ من الفلسفة، لكن الشكوى من عسر النحو القديم وافتقاره إلى النظرة
العلمية المقنعة دفع الباحثين إلى القطيعة مع هذا المنهج، والبحث عن رؤية جديدة
أساسها العلمية والموضوعية، فكانت اللسانيات الوصفية الأقرب إلى الموضوعية والدقة
العلمية، والمقصود بالوصفية في النحو ((الاكتفاء بوصف الكلام من الناحية النحوية،
دون الوصول إليها تأويلا وتعليلا، ونبذ الزيادات التي أفسدت هذا العلم))[1].
فقد
اتخذت اللسانيات الوصفية من نقد الدراسات التقليدية للنحو مسوغا لمشروعيتها
وأحقيتها بتحويل مسار الدراسات اللغوية وتجاوز هنات اللسانيات التاريخية، خصوصا
بعد أن وجدت أفكار اللساني "دي سوسير" رواجا كبيرا وانتشارا
واسعا في أوربا بداية القرن العشرين.
ومن
النقائص التي استدركها الوصفيون الغربيون على النحو المعياري:[2]
١ -الذاتية بمعنى
تحديد القواعد وفقا للدارس نفسه بناء على فهم المعنى أولا.
٢ -التركيز على
التعليل عند تفسير الظاهرة اللغوية اعتمادا على تصورات غير لغوية بدل الملاحظة.
٣ -اعتماد الجملة
الخبرية أساسا لأقسام الكلم أدى إلى إقصاء الأنماط الأخرى من الكلم واعتبارها
أشكالا منحرفة من الجملة الخبرية.
٤ -اعتماد المنطق
الأرسطي الخاص باللغة اليونانية في تحليل اللغات الأوروبية دون مراعاة خصوصية كل
لغة.
٥ -لم يميز النحو
التقليدي بين التمثيل الصوتي والتمثيل الخطي للغة فخلط بين نظام اللغة المنطوقة
ونظام اللغة المكتوبة.
٦ -الخلط بين
مستويات التحليل(الصرفي والنحوي والصوتي..).
وقد
ظل المنهج الوصفي ناقما على النحو التقليدي ،ساعيا إلى توجيهه بما يوافق البحث
العلمي الموضوعي الذي قالت به لسانيات دي سوسير، و((اللغويون المحدثون يطلقون على
النحو القديم اسم النحو التقليدي، ويعنون به منهج النحو القائم على أفكار أرسطو عن
طبيعة اللغة اليونانية، كما تتمثل في أعمال اليونان والرومان القدماء، والذي نود
أن نشير إليه هنا أن النحو التقليدي نحو غربي، وأن النحو الوصفي بحدوده العلمية
الحديثة نحو غربي أيضا))[3].
لكن
هذا لم يمنع من انتقال التجربة الوصفية الغربية إلى حقل الدراسات اللغوية العربية،
لأن أقوى برهان ممكن لإثبات عدم صلاحية نظرية لغوية هو أن يتبين أنها لا تنطبق على
إحدى اللغات الطبيعية، أو أنها لا تنطبق إلا بشكل رديء[4]، حيث دخلت مفاهيم جديدة وأصبح الحديث عن
الموضوعية في مقابل الذاتية، وعن الوصفية في مقابل المعيارية، واقتنع جل الباحثين
بأن التفكير اللغوي المعاصر لا مناص له من الملاحظة والوصف، وهذا ما تمليه طبيعة
دراسة الظاهرة اللغوية.
حقا،
((لقد ظهر المنهج الوصفي في الدرس اللغوي في العالم الغربي غير أن العلماء العرب
الذين كتبوا فيه مقالات وكتبا، وربما رسائل جامعية، لم يصلوا فيما كتبوه إلى إقرار
"منهج وصفي" كان من شأنه أن يؤثر في الدرس النحوي))[5].
ومن
الصعوبات التي واجهت الباحثين اللسانيين العرب مشكلة اللغة العلمية والمصطلحات،
وذلك راجع إلى التمييع الدلالي الذي أصيبت به المصطلحات، فصارت تدل على مدلولات
غير واضحة دون ما دقة وضبط في تأدية المعاني، إضافة إلى هذا أخطاء في الأصول
المنهجية أو في تطبيقاتها على المبحث العلمي، ((وأهم الأخطاء المنهجية الشائعة
اليوم في الأوساط العلمية العربية تتوزع في هذه الآونة على نوعين من البيئات:
البيئة التقليدية التي حافظت على التقاليد الدراسية، والبيئة التجديدية التي نشأت
عن احتكاك العرب بالحضارة الغربية الحديثة))[6].
لقد
واصلت البيئة التقليدية دراستها للغة بنفس المناهج الموروثة عن المتقدمين من
اللغويين لكنها أصيبت بشيء من المعيارية عندما اهتمت بالعلل التعليمية وعدم
التفاتها للعلل القياسية وأسرار الظواهر اللغوية الكامنة.
أما
البيئة التجديدية فقد اختارت لبحثها مناهج وصفية واستقرائية وتحليلية لكنها لم
تسلم من تسرب الأوهام الفيلولوجية التى سادت الأوساط العلمية الغربية، فالبحوث
العربية المعاصرة لم تتجاوز البحث فيما يمكن أن يكون من علاقة بين اللسانيات
والتراث العربي، فهذه العلاقة كانت محور الدراسات اللسانية العربية الحديثة، ومن
المؤسف أن هذه البحوث لم تخرج عن إحدى المساعي الأربع التالية:
ü فهي
إما أن تنتصر للسانيات على حساب النحو العربي القديم.
ü وإما
أن تسعى لإنصاف النحو العربي من اللسانيات.
ü وإما
أن تبحث عن مفاهيم لسانية في النحو العربي.
ü وإلا
فهي تقارب بين آراء النحاة العرب واللسانيين الغربيين.
لكنها
لم ترق إلى تأسيس نظرية لسانية عربية ضمن إطار ابستيمولوجي محدد، وذلك رغم
المحاولات الكثيرة والدعوات لإعادة قراءة التراث اللغوي العربي خصوصا بعد اطلاع
الباحثين العرب على المفاهيم الـتأسيسية للسانيات الأوربية والأمريكية، فلا يخفى
على كل من ألمّ بشيء من هذا العلم ((الفراغ المهول الذي يوجد الآن في صلب الدراسات
العربية المتعلقة بعلم اللسان البشري العام... والفراغ المذكور يكاد يكون خلاء
مطلقا))[7].
ولعل
من أخطر ما عاق ازدهار الوعي اللساني في أوساطنا العلمية ((معركة الوصفية
والمعيارية في المعرفة اللغوية، بل على وجه التحديد ما لابسها من خلط منهجي وتحريف
مبدئي، تولّدت عنهما مجموعة من المشاكل الزائفة أربكت دعاة المعيارية، وأرهقت
أنصار الوصفية...فلا أنصف العربية من ظنوا أنهم حراسها، ولا خدم اللسانيات من
انبروا روادا لها))[8].
ومن
رواد الوصفيين العرب الدكتور تمام حسان الذي أبلى بلاء حسنا في هذا المضمار خصوصا
في مؤلفاته ''مناهج البحث في اللغة'' و''اللغة بين المعيارية والوصفية'' وأول ما
أكد عليه هو حاجة اللغة إلى منهج مستقل لدراستها، ((وإذا نظرنا إلى اللغة
باعتبارها مجموعة من النظم الوضعية الاجتماعية ذات أقسام من الأنماط والعلامات
وجدنا أن من الممكن أن نستقل بمنهجها عن مناهج العلوم، ويأخذ منهجها في اعتباره
الشكل والوظيفة باعتبارهما أساسين من أسس بنائه يطبقان في كل فرع من فروع الدراسة
اللغوية))[9].
وبكلامه
هذا يرمي إلى نقطتين حساستين حاسمتين في أي دراسة علمية هما:
§ الحاجة
الملحة لدراسة اللغة ضمن إطار نظري منظم هو المنهج.
§ ضرورة
استقلالية هذا المنهج بالقطيعة مع التفكير الفلسفي والمرجعيات النظرية الأخرى.
أما
عن موقفه من منهج القدامى فيقول: ((إن تاريخ دراسة اللغة العربية ليعرض علينا في
بدايته في محاولة جدية لإنشاء منهج وصفي في دراسة اللغة، يقوم على جمع اللغة
ورواياتها، ثم ملاحظة المادة المجموعة،واستقرائها، والخروج بعد ذلك بنتائج لها
طبيعة الوصف اللغوي السليم، ولكن بعض الأخطاء المنهجية في طريقتهم لم تمكنهم من
الخلاص من النقد))[10].
نعم، فالملاحظ أن
انتقال المنهج الوصفي للدرس العربي لم يراعي فيه أصحابه خصوصية التراث العربي فما
عِيب على النحو الأوربي لبسه النحو العربي فقط لكونه نحوا قديما في نظر أهله، لأن
بعض الباحثين العرب ساروا على خطى الوصفيين من الغربيين فسلّموا بأن ما صح من نقد
الأوروبيين لنحوهم التقليدي ينسحب أيضا على النحو العربي،كما أن البحوث والدراسات
التي نقلت المنهج الوصفي للدرس اللغوي العربي لم تكن منصفة فهي لا تولي اهتماما
لكثير من الجوانب الوصفية في النحو العربي القديم، وأهم ما جاء في مؤلفات هذه المرحلة
نقودات وجهت للنحو العربي القديم تمحورت حول:
• تحديد
البيئة الزمانية والمكانية للغة المدروسة.
https://lissane7.blogspot.com/2019/12/blog-post_22.html
https://lissane7.blogspot.com/2019/12/blog-post_22.html
• الخلط
بين مستويات التحليل اللغوي.
https://lissane7.blogspot.com/2019/12/blog-post_83.html
• التقعيد لمستوى معين من اللغة خص النص القرآني والشعر.
https://lissane7.blogspot.com/2019/12/blog-post_74.html
https://lissane7.blogspot.com/2019/12/blog-post_83.html
• التقعيد لمستوى معين من اللغة خص النص القرآني والشعر.
https://lissane7.blogspot.com/2019/12/blog-post_74.html
• الاهتمام
بالمبنى على حساب المعنى.
[2]) انظر: النحو العربي في مواجهة العصر لإبراهيم
السامرائي، ص23/24، واللسانيات في الثقافة العربية لحافظ إسماعيلي علوي، ص225/226.
[3]) السامرائي إبراهيم، النحو العربي في مواجهة العصر، دار الجيل، بيروت،1995،
الطبعة الأولى، ص22.
[4] ) نعوم تشومسكي، البنى النحوية، ترجمة: يؤيل
يوسف عزيز، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1987، ص 51.
[5]) السامرائي إبراهيم، النحو العربي في مواجهة العصر، دار الجيل، بيروت، 1995،
الطبعة الأولى، ص10.
[6] ) الحاج صالح عبد الرحمان، بحوث ودراسات في
علوم اللسان، موفم للنشر، الجزائر، دون ط، 2007، ص 16.
[7] ) الحاج صالح عبد الرحمان، بحوث ودراسات في
علوم اللسان، موفم للنشر، الجزائر، دون ط، 2007، ص 08.
[8] ) المسدي عبد السلام، اللسانيات وأسسها المعرفية، الدار التونسية للنشر،
1986، ص 13/14.
[9] ) حسان تمام ، مناهج البحث في اللغة، مكتبة
الأنجلو، القاهرة، دون ط، 1990، ص 29.
[10] ) حسان تمام، اللغة بين المعيارية والوصفية،
عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2000، ص12.
ليست هناك تعليقات